شهدت تركيا واحدة من أكبر موجات هروب رؤوس الأموال مقارنة بأي اقتصاد ناشئ آخر.
عاد سعر صرف الليرة التركية ليشهد انخفاضا ملموسا خلال الأسبوع الماضي، حيث شارف سعر الصرف على تسجيل 7.5 ليرة مقابل الدولار لأول مرة على الإطلاق. ويعد هذا التدهور في سعر الصرف محصلة سياسات اقتصادية معوجة لا تحاول مواجهة الأوضاع المتأزمة بما تستحقه من وضوح وجدية، إضافة إلى أثر جائحة كوفيد 19.
سعر الصرف مظهر للمشكلة
شهدت تركيا واحدة من أكبر موجات هروب رؤوس الأموال مقارنة بأي اقتصاد ناشئ آخر. فطبقا لأرقام البنك المركزي التركي بلغ صافي تدفق رأس المال للخارج 6.7 مليار دولار في شهر يونيو الماضي وحده.
وحيث أنه سيكون أمرا مكلفا اقتصاديا وسياسيا في الأمد القصير والمتوسط إذا ما تم التعامل مع العوامل التي تحول دون انخفاض قيمة العملة التركية، وهي تحديدا العوامل التي تشمل عجز الحساب الجاري، والديون الخارجية وعملية الدولرة، فقد اختار وزير الخزانة والمالية وصهر أردوغان بيرات البيرق عمليات تجميلية تشمل إجراءات مؤقتة لإبقاء أسعار الفائدة منخفضة مع التوسع في منح الائتمان إلى أقصى حد ممكن.
ونظريا يتبع سعر الصرف التركي نظام التعويم أي جعل سعر صرف العملة حرا يتحدد بناء على الطلب على والعرض من العملات الأجنبية، ولكن عمليا فإن البنك المركزي -الذي هو مُتحكم فيه بالكامل من قبل أردوغان- يتدخل في تحديد سعر الصرف من خلال عدد من الإجراءات.
تتضمن هذه الإجراءات تجفيف سيولة الليرة في الأسواق الخارجية إلى جانب بيع الدولار الأمريكي من خلال البنوك العامة، واستخدام احتياطيات العملات الأجنبية وفرض ضريبة على التعاملات بالعملات الأجنبية للحد من عملية الدولرة.
وعلى الرغم من هذه التدخلات انخفضت قيمة الليرة التركية بنحو 24% منذ بداية عام 2020، وبنحو 87% منذ مايو 2018. وانخفضت قيمة العملة بنحو 6% على مدى يومين فقط في شهر أغسطس الماضي لتصل إلى مستوى 7.37 مقابل الدولار، واستمر الانخفاض بعد ذلك ليصل سعر صرف الليرة يوم الأربعاء الماضي إلى 7.49 مقابل الدولار.
ومع ضيق المجال أمام الإجراءات التي يمكن أن يتخذها البنك المركزي، لم يبق متاحا أمامه للدفاع عن سعر الصرف سوى اللجوء إلى رفع أسعار الفائدة، وهو إجراء يعارضه الرئيس علنا. وتجري هذه المعارضة وفقا لرؤية مغلوطة ترى أن رفع أسعار الفائدة ترفع معدلات التضخم، على الرغم من كافة النظريات والحقائق التي تشير إلى العكس. ووفقا لتعليمات الرئيس أبقى البنك المركزي على سعر الفائدة عند 8.25%، ولكنه بطرف خفي رفع سعر الفائدة على التمويل الذي يقدمه للبنوك في نهاية يوليو إلى 9.3% بدلا من 7.7%، وهو ما يعني رفع سعر الفائدة دون إعلان عن ذلك. وحاليا يتم منح القروض عند سعر فائدة يزيد على 10%، بعد أن كان يتم منحها منذ أشهر قليلة عند مستوى يزيد بقليل على 7%. والمشكلة أن تعافي النشاط الاقتصادي الذي هو أمر مفروغ منه بعد أن بلغ مستويات متدنية بتأثير سوء السياسات الاقتصادية والجائحة يمكنه أن يضعف مرة أخرى مع نهاية هذا العام كما يتوقع البعض بسبب ارتفاع أسعار الفائدة.
إلى جانب ما سبق ومن أجل دفع البنوك الخاصة والعامة لزيادة مستويات إقراضهم للقطاع الخاص، قامت هيئة الإشراف والرقابة على البنوك برفع نسبة القروض للودائع إلى 100% في شهر أبريل.
ارتفاع معدلات البطالة على عكس ما تعلنه الحكومة
كان مصدر تمويل حزمة الإنفاق التي تبلغ 3.8% من الناتج المحلي الإجمالي والتي تم تقديمها لدوائر الأعمال والعمال هو صندوق التأمين ضد البطالة وهيئة التوظيف التركية، وليس من ميزانية الحكومة المركزية.
ووفقا لحزمة الإنقاذ فإن نحو 7.2 مليون من عائلات العمال ستتلقى 1000 ليرة كدعم للدخل على مدى 4 أشهر ونصف وهو ما يعني 222 ليرة شهريا، أي ما لا يزيد على 30 دولارا.
وكان الأثر الأكبر على معدل التوظيف. ومع هذا فقد أعلنت السلطات الرسمية انخفاض معدل البطالة إلى 12.8% من مستوى كان يبلغ 13% في شهر أبريل!! وكان هذا ممكنا جزئيا في الظاهر بسبب سياسات التوظيف التي تم تقديمها من أجل مواجهة الجائحة مبدئيا. فقد حظرت الحكومة فصل العمال وأعطت موافقة لدوائر الأعمال على منح إجازة للعمال مع دفع 39 ليرة يوميا، وهو ما يعني أن يتم دفع ما يعادل أقل من نصف الحد الأدنى الشهري للدخل. ولكن واقعيا يقدر البعض أن معدل البطالة قد ارتفع. حيث لا يتم حساب العمال الذين يحصلون على إجازة دون تلقى أجورهم على أنهم عاطلين عن العمل. وانخفض معدل المشاركة في قوة العمل إلى 47% بعد أن كان يبلغ 52% من السكان في أبريل الماضي، وهو ما يتضمن يأس البعض من البحث عن عمل لعدم إمكانية حصولهم عليه، وبالتالي لا يسجلون ضمن العاطلين وفقا للتعريف المتبع. وعموما فطبقا لبعض الحسابات المستقلة لاقتصاديين أتراك ومنهم الاقتصادي ماهفي ايجيلمز بلغ معدل البطالة الحقيقي نحو 24.6% في شهر أبريل الماضي، ويقدر البعض الآخر هذا المعدل حاليا عند 28.7%. ولهذا من المحتمل أن يكون معدل الفقر في تركيا قد ارتفع إلى مستويات غير مسبوقة. وذلك بعد أن كان البنك الدولي يشير إلى التجربة التركية المؤثرة التي استطاعت خفض معدل الفقر إلى النصف خلال الفترة 2002-2015. ولكن أصبح البنك الآن يشير إلى أن صورة الاقتصاد الكلي الإجمالية تعد أكثر تقلبا ويحيطها عدم اليقين، مع الوضع في الاعتبار ارتفاع معدلات البطالة والتضخم، وتناقص الاستثمارات وتصاعد المخاطر أمام قطاع الشركات والقطاع المالي، والتنفيذ غير المكتمل والمتفاوت للسياسات التصحيحية وخطط الإصلاح.
انخفاض الصادرات
كان من المتوقع أن يكون الجانب الأكثر استفادة من انخفاض سعر صرف الليرة هو الصادرات. فمن المعروف أنه عندما ينخفض سعر الصرف تنخفض أسعار السلع المصدرة بالعملات الأجنبية وهو ما يعطي الصادرات دفعة كبيرة. ولكننا في الحالة التركية نجد أن الصادرات شهدت انخفاضا ملحوظا، حتى قبل تفجر جائحة كوفيد 19. فقد شهدت الصادرات انخفاضا بمقدار 16% في الربع الأول من العام الحالي مقارنة بنفس الربع من العام السابق، ثم عادت للانخفاض بمقدار 35% في الربع الثاني مقارنة بالربع الأول من العام. وفي الإجمال فخلال النصف الأول من العام الحالي انخفضت الصادرات بمقدار 26% مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة