الرئيس التركي يعيش أزمات مفتوحة مع الجميع، والمشكلة أنه يعيشها بوهم المسيطر والقوي الذي يستطيع فرض شروطه على الخصوم
عندما طرق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان باب الاتحاد الأوروبي بحثا عن دعم عسكري في سوريا، جاءه الرد بالتأجيل إلى حين اتباعه سياسة تدعم الحل السياسي للأزمة الممتدة هناك منذ تسع سنوات. الرد الأوروبي يحتمل شكلين للتفسير؛ الأول هو أن أردوغان يمارس دوراً تخريبياً في سوريا، والثاني أنه لا يلعب الدور الذي تريده بروكسل كي تبادله الدعم في مواجهة دمشق وحلفائها في الميدان.
المشترك في الشكلين أن الرئيس التركي بات يواجه أزمة في العودة إلى الحضن الأوروبي والناتو. لقد مضى السلطان في عقوقه كثيراً، وباتت المصالحة مع الغرب أصعب من أي وقت مضى. فالأزمة بين أردوغان والأوربيين ليست عسكرية أو مادية فقط، وإنما سياسية ودبلوماسية واجتماعية وأخلاقية أيضاً. فتركيا أردوغان لا تصلح لأن تكون عضوة في الاتحاد الأوروبي ولا الشرطي الغربي في الشرق الأوسط.
يعيش الرئيس التركي اليوم أزمات مفتوحة مع الجميع. والمشكلة أنه يعيشها بوهم المسيطر والقوي الذي يستطيع فرض شروطه على الخصوم. مرة يستدعي أوهامه هذه من تاريخ الإمبراطورية العثمانية، وأخرى يتكئ فيها على حلفاء صغار يسخرون مالهم وإعلامهم لدعم مغامرات السلطان. ليس إيمانا به أو بجدوى مشاريعه، وإنما طمع باستمرار احتضانه لمشروع الإخوان وتنظيمهم الدولي
هناك ساسة وإعلاميون أتراك يروجون لهذه الفكرة. يقولون إن بروكسل وواشنطن تريدان من أنقرة أن تكون شرطي الغرب في المنطقة، ولكن أردوغان يرفض ذلك. لا يبدو لي دافع الرفض هذا أخلاقياً أبداً، حتى وإن كان هذا الطرح صحيحاً. فمن يتاجر باللاجئين والمهاجرين ويستخدمهم ورقة ضغط وابتزاز لدول العالم، لا تنطوي سياسته الخارجية على أي محددات أخلاقية أو مبادئ إنسانية.
جوهر الأمر وملخصه هو أن أردوغان مأزوم في سياستيه الداخلية والخارجية. غرق في استراتيجية عنق الزجاجة التي انتهجها مع أمريكا والاتحاد الأوروبي وروسيا ودول أخرى في جواره والعالم. وعندما انتقلت العدوى من الخارج إلى الداخل. خسر أصدقاء الأمس وتصدع حزبه وتداعت شعبيته وتراجع اقتصاد بلاده، وأضحى أردوغان كلما حاول أن يطفئ حريقاً حوله أشعل عشرة بدلاً عنه.
يعيش الرئيس التركي اليوم أزمات مفتوحة مع الجميع. والمشكلة أنه يعيشها بوهم المسيطر والقوي الذي يستطيع فرض شروطه على الخصوم. مرة يستدعي أوهامه هذه من تاريخ الإمبراطورية العثمانية، وأخرى يتكئ فيها على حلفاء صغار يسخرون مالهم وإعلامهم لدعم مغامرات السلطان. ليس إيماناً به أو بجدوى مشاريعه، وإنما طمع باستمرار احتضانه لمشروع الإخوان وتنظيمهم الدولي.
نظام أردوغان اليوم، من رأس الهرم إلى القاعدة الشعبية، بات ينشد نهاية لأزماته المفتوحة مع الداخل والخارج. القادم كما يرونه أكثر قتامة، والتنازلات التي قد يضطر إليها السلطان في مقبل الأيام والأشهر، ربما تضع حداً لمستقبل حزب العدالة والتنمية على عكس ما يشتهي أرباب الإسلام السياسي. فالذين يتربصون بأخطاء أردوغان في الداخل هم أكثر من أعدائه في الخارج. وهم أكثر خطورة لأنهم كانوا حلفاء الأمس ويعرفون مواطن قوته ومكامن الضعف في إدارته.
هناك من يستشعر انقلاباً أبيض على السلطان. تستطيع أن تقرأ ذلك بوضوح بين سطور خطاب رئيس وزراء أردوغان السابق أحمد داود أوغلو بعدما أطلق حزبه الجديد "المستقبل". ثمة إشارات أخرى في السياق ذاته تصدر عن قيادي منشق آخر عن حزب العدالة والتنمية هو علي باباجان الذي شرع بإطلاق حزبه الجديد الذي سيضم وزراء ونواب سابقين ومنشقين عن حزب أردوغان.
أوغلو وباباجان كانا من أعمدة حزب العدالة والتنمية عند تسلم السلطة في 2002، ولهما مع العالم الخارجي عموماً والغرب على وجه الخصوص، ما يكفي من الصلات التي تُصعِبُ على أردوغان حلحلة أزماته الخارجية. مزيد من التعثر والتخبط في هذه الأزمات يبدو جيداً من أجل توجيه ضربات موجعة للسلطان، خصوصا أن المعارضة التركية التقليدية تقف على قلب رجل واحد ضده. ولا أظنها تمانع التحالف حتى مع الشيطان إن كانت النتيجة هي نهاية الحياة السياسية لأردوغان.
داخلياً لن تكون المعركة ضد أردوغان وحزبه هي فقط باللكمات كما حدث مؤخراً تحت قبة البرلمان التركي. أما خارجياً فإن خصوم السلطان يستغلون مآزقه السياسية والعسكرية والاقتصادية أحسن استغلال. يدرك الرئيس التركي هذه الحقيقة، ولذلك يستعجل إغلاق ملفاته العالقة مع أوروبا وأمريكا وروسيا. الأثمان تبدو باهظة مقابل العوائد المتوقعة. ولكن لا خيار أمام أردوغان سوى المضي في أحد الخيارات التي لم يرغب يوماً في المفاضلة بينها، خصوصا بشأن علاقاته الخارجية.
وسط الاستعصاء في حلحلة أزماته لا يحصد أردوغان إلا بعض المنافع المشروعة وغير المشروعة لحاشيته وعائلته. بالإضافة إلى أنه يتصدر عناوين الصحف والتلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي معظم الوقت. للأمرين مضار أيضاً وهما "سكين ذو حدين" كما يقال. فمكاسب العائلة والحاشية تجر مزيداً من المعارضة الداخلية. ووسائل الإعلام تهتم في المواقف السلبية التي يعيشها السلطان، بالقدر ذاته التي تعرض بطولاته. تماماً مثلما حدث عندما انتشرت صور السلطان وهو ينتظر أن تفتح أمامه أبواب القيصر الروسي فلاديمير بوتين في أروقة الكرملين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة