ربما يكون الأهم من كل ذلك هو عدم تمكن التدخل العسكري والاستخباراتي التركي السافر من تغيير الوقائع على الأرض حتى الآن
المؤشرات الدالة على تضعضع وتراجع قدرة أردوغان على تحقيق غاياته في ليبيا واحتمال هزيمة مشروعه تزداد وضوحا، أول هذه المؤشرات نابع من أسباب تركية سياسية وحزبية واقتصادية باتت تشكل تحديات جدية لأردوغان ومغامراته الخارجية.
أما ثاني المؤشرات فمرتبط بوقائع ليبية صرفة تتلخص بثلاثة عوامل مستجدة؛ أولها اقتراب الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير حفتر من إحكام طوقه على قلب العاصمة طرابلس وتحقيقه تقدما مستمرا وإن كان بطيئا، مع وجود حاضنة قبلية وشعبية داعمة له في مختلف أوساط المجتمع الليبي، وثانيها التراجع والتقهقر المطرد لمليشيات السراج أمام الجيش الوطني وتقلص موارد ومنابع الدعم لها.
أما العامل الليبي الثالث فهو ارتفاع القتلى في صفوف المرتزقة الذين زج بهم أردوغان في ميدان القتال وهروب أعداد منهم وإعلان آخرين ندمهم على ما وصفوها بـ"الورطة" وتلويحهم بالهرب بعد أن تأكد لهم عدم قدرة رعاتهم الأتراك والليبيين على الالتزام بتعهداتهم لهم، وثمة مؤشر ثالث خارجي آخر مصدره التحرك الأوروبي باتجاهين؛ الاتجاه الأول قرار الدول الأوروبية إطلاق عملية عسكرية بحرية تنفيذا لقرار أممي لمراقبة السفن التي يشتبه بنقلها السلاح إلى ليبيا، والاتجاه الثاني إعلان وزير الخارجية الإيطالي استعداد أوروبا لنشر قوات فصل في ليبيا؛ مجمل هذه الوقائع – المؤشرات أصبحت مجتمعة تعمل ضد مشروع العثماني الجديد في ليبيا.
رهانات أردوغان على المرتزقة الذين وصلوا إلى طرابلس باتت على المحك في ظل حالات التململ والتذمر التي تفشت بينهم بعد مواجهتهم الحقائق في الميدان الليبي
في مثل هذا الشهر من العام الماضي بدأت قوات الجيش الوطني الليبي هجومها على العاصمة طرابلس وتمكنت خلاله من تحقيق عدة أهداف بعضها عسكري على الأرض وبعضها الآخر سياسي، على الصعيد العسكري أفرزت المعارك معادلة جديدة قائمة على امتلاك الجيش الوطني الليبي عوامل القوة والدعم والاستمرار لتحقيق أهدافه مقابل تراجع مليشيات السراج والمرتزقة المدعومين من أردوغان تسليحاً وتدريباً وعتاداً بما فيها الطائرات المسيرة.
وربما يكون الأهم من كل ذلك هو عدم تمكن التدخل العسكري والاستخباراتي التركي السافر من تغيير الوقائع على الأرض حتى الآن والتي تصب في مصلحة الجيش الوطني الذي لم يتردد في إرسال رسائله للجانب التركي سواء باستهداف جنود أتراك أو تدمير منظومات دفاع جوية تركية في طرابلس وإسقاط طائراته المسيرة، أما سياسياً فقد أثبت الجيش الوطني أنه الرقم الأصعب في معادلة الصراع في ليبيا، وهذا ما تجلى بوضوح خلال اللقاءات والمؤتمرات الدولية التي انعقدت في محاولة للوصول إلى حل سياسي من برلين إلى موسكو.
رهانات أردوغان على المرتزقة الذين وصلوا إلى طرابلس باتت على المحك في ظل حالات التململ والتذمر التي تفشت بينهم بعد مواجهتهم الحقائق في الميدان الليبي؛ قد يكون مرد تذمرهم صحوة متأخرة، وقد تكون ردة فعل على زجهم في الخطوط الأمامية للمعارك وسقوط قتلى بين صفوفهم بشكل مستمر ومطّرد، وقد تكون احتجاجا على عدم تسلمهم مستحقاتهم المالية التي وُعدوا بها.
أيّاً تكن الدوافع فإنهم باتوا يشكلون عبئا على رعاتهم سواء في بقائهم على الأرض الليبية أو في حال غادروها طوعاً أوكرهاً باتجاه تركيا أو أي مكان آخر، نظراً إلى أن الوضع الداخلي التركي يمر بفترة حرجة سياسيا واقتصاديا مترافقة مع الأعباء الهائلة التي تقتضيها وتتطلبها الإجراءات والاحتياطات الشاملة لمواجهة تفشي كورونا في البلاد على المستويات كافة وتحديدا الاقتصادي.
ويتوقع الخبراء الماليون في العالم تفاقم المشاكل الاقتصادية لتركيا بسبب أزمة كورونا لعدم قدرتها على الاستجابة ماليا بدرجة كافية للقيود التي تم اعتمادها داخليا لاحتواء الوباء، وهذا بدوره سيكون عاملا مؤثرا على قدرة الإنفاق العسكري المطلوبة لاستمرار نهج أردوغان التوسعي والتزاماته في ليبيا وغيرها.
أما سياسيا فيمكن النظر بكثير من الاهتمام إلى مواقف أحزاب المعارضة التركية التقليدية وكذلك الأحزاب حديثة العهد المناهضة جميعها لسياسة ونهج الرئيس التركي؛ إذ أظهرت أحزاب المعارضة في مواقف وخطوات كثيرة أنها تتقدم في طروحاتها على حزب العدالة والتنمية الحاكم، وبلورت قواسم مشتركة مع الرأي العام الداخلي حول العديد من القضايا الداخلية، وحتى في مقارباتها للسياسة التركية الخارجية فقد أفصحت عن توجهاتها الرافضة لسياسة أردوغان التوسعية، ما يضيف مزيدا من التحديات بوجه مشاريعه في ليبيا بعد التجربة السورية، يضاف إلى كل ذلك بروز الموقف الأوروبي الموحد في وجه مشاريع العثماني الجديد في ليبيا وفي سواحل المتوسط عموما وعدم اقتصاره على الجانب السياسي بل تعداه إلى ترجمة عملية بتشكيل قوة بحرية ونشرها في المياه الدولية المقابلة لشواطئ ليبيا وتنفيذ عمليات تفتيش للسفن التي يشتبه بنقلها الأسلحة إلى ليبيا واستعدادها للذهاب أبعد من ذلك بما فيها نشر قوة فصل أوروبية داخل ليبيا، وبذلك يكتمل إطار الدائرة التي باتت تطوق أردوغان ومشروعه على المستوى الاستراتيجي في تلك المنطقة.
جميع المحاولات الإقليمية والدولية لبلورة حل سياسي في ليبيا تعثرت حتى الآن، وتركيا أردوغان أخفقت في تغيير الوضع لصالحها رغم كل ما حشدته أيديولوجيا وعسكريا وسياسيا، اليوم تبدو أنقرة عاجزة أكثر من السابق عن تحقيق أهدافها هناك بعد تراكم التعقيدات والصعوبات والتحديات بوجه مشروعها الأردوغاني داخليا وخارجيا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة