إسطنبول 2.. دلالات وارتدادات "انتكاسة" أردوغان
فوز أوغلو أوجد مشهدا سياسيا مغايرا، فالعدالة ورموزه يمسكون بزمام الحكم، والمعارضة في مواجهتهم على خطوط التماس المباشرة مع المواطنين.
خسر حزب العدالة والتنمية ورئيسه السابق بن علي يلديرم الانتخابات البلدية التركية في مدينة إسطنبول للمرة الثانية في مواجهة أكرم إمام أوغلو، الذي أثبت بعد معركتين انتخابيتين، ومعارك سياسية وإعلامية متعددة أنه "نجم السياسة" التركية خلال السنوات المقبلة، وأن الرهان عليه من قبل أحزاب المعارضة لم يكن صدفة بعد الفوز بكبرى مدن البلاد وبفارق أكبر عن نتائج الانتخابات التي أجريت في 31 مارس/ آذار 2019، إذ تشير النتائج الأولية إلى فوزه بنحو 55.12% من جملة الأصوات في مقابل 44.85% لمرشح الحزب الحاكم.
تعددت وتنوعت محركات فوز أكرم إمام أوغلو، ولكن جوهرها ارتبط بشخصه الذي لم ينزع إلى التصعيد حينما أُعيد الفرز بعد انتخابات مارس/آذار، ولم يصطدم بالسلطة عندما قررت إعادة الانتخابات رغم فوزه المؤكد بفارق يصل إلى نحو 13 ألف صوت.
ورغم احتجاج مؤيديه واعتراض مريديه على سلوكيات السلطة السياسية وممارساتها، إلا أنه أعلن أنه لم يخسر من قبل معركة سياسية أو جولة انتخابية، وأن نهجه يقوم على النزوع إلى التسويات لا اختلاق الصراعات. وربما كان ذلك العامل الحاسم في إحباط خطط العدالة والتنمية، وفوز أكرم إمام أوغلو بفارق يقارب المليون صوت، بما أوجد مشهدا سياسيا في إسطنبول بمجرد إعلان النتيجة يوحي بأنها شهدت انتخابات رئاسية وليست محض بلدية، وأن دلالات الفوز وانعكاساته قد تتجاوز حدود المدينة لتشمل كافة أرجاء الدولة.
مشهد تركي جديد.. محركاته ودلالاته
فوز أوغلو أوجد مشهدا سياسيا مغايرا، فالعدالة ورموزه يمسكون بزمام الحكم، والمعارضة في مواجهتهم على خطوط التماس المباشرة مع الناخبين والمواطنين عبر رئاسة بلديات كبري، بلغ مجموعها زهاء 19 بلدية، ومجموع مواطنيها يتجاوز مؤيدي حزب العدالة الحاكم، في مختلف البلديات، ومع ذلك تبقى المعركة الحقيقة في إسطنبول، ويكتسي الفوز برئاستها أهمية خاصة ترتبط بحسبانها كبرى مدن تركيا.
وقد وقف وراء اكتساح أكرم إمام أوغلو الانتخابات العديد من المحركات، ارتبط أهمها بتداعيات استغلال حزب العدالة والتنمية للجنة العليا للانتخابات وتوجيهها لإعادتها رغم فرز صناديق الانتخابات مرتين، وذلك على نحو خلق مناخا انتخابيا يسوده التعاطف مع مرشح "تحالف الأمة" أكرم إمام أوغلو، الذي بدا رجلا لا يواجه منافسا، وإنما يجابه نظاما سياسيا حشد كل طاقته ومصادر قوته لهزيمته في معركة لم يعتد الحزب الحاكم شدَّتها، ولم تشفع له فيها خبراته الانتخابية، التي راكمها على مدى يتجاوز عقد ونصف العقد.
ارتبط ذلك على جانب آخر، بإثبات قدرة المعارضة على إظهار التماسك والاستفادة من الهزائم الانتخابية السابقة التي غلبت فيها التوجهات الأيديولوجية على المصالح السياسية. وبدا ذلك جليا على نحو أكبر في حالة حزب الشعوب الديمقراطية الذي لم تستجب قواعده لدعوة زعيمه الروحي عبد الله أوجلان بالتزام الحياد، وإنما انحازت إلى صوت زعيمه المسجون صلاح الدين ديمرتاش، الذي أشار إلى قواعد حزبه أن المصلحة السياسية تقتضي التزام صفوف المعارضة، وتجاوز الانقسامات الحزبية، والانحيازات القومية، والخلفيات التاريخية للعلاقات بين الأحزاب التركية.
تأسس التوجه الكردي لدعم أكرم إمام أوغلو أيضا على حالة خلقتها أجواء الانتخابات التي بدت وكأنها معركة سياسية مصيرية تستدعي عودة مئات الآلاف من مدن تركيا المختلفة إلى موطنهم الانتخابي، وحشد جميع المواطنين للمشاركة في إعادة صوغ مستقبل مدينة عدد أصوات ناخبيها يتجاوز 10.5 مليون صوت، ويبلغ مجموع قاطنيها نحو 16 مليون مواطن، وتنتج بمفردها قرابة ثلث الناتج المحلي الإجمالي لتركيا، بما يعني أنها ليست محض مركز صنع القرار وحسب، وإنما تُعد عاصمة المال والأعمال ومركز اللوبيات وجمعيات رجال الأعمال القادرة على المشاركة في صناعة مشهد سياسي مغاير إذا ما تضررت مصالحها الاقتصادية.
ورغم أن انقسامات حزب العدالة والتنمية الداخلية واحتمالات حدوث انشقاقات سياسية بين صفوفه قد تكون أحد أبرز نتائج هذه الانتخابات، غير أنها مثلت أحد محركات فوز أكرم إمام أوغلو، ذلك أن تزايد حدة السخط حيال إجراءات حزب العدالة الاقتصادية ومعارضة سياساته المالية تفاقمت في ظل تدهور مالي متصاعد وتراجع اقتصادي متزايد، لم يعد من اليسير التعايش معه لفترة طويله، ليس وحسب بالنسبة إلى مواطني تركيا، وإنما إلى رجال الأعمال الذين تزايدت بين صفوفهم عمليات الإعلان عن الإفلاس، وذلك في ظل تصاعد مؤشرات عدم القدرة على سداد الديون لأسباب كثيرة، البعض منها يتعلق بتراجع قيمة العملة التركية (الليرة) بنحو 35% من قيمتها في أقل من عام.
وقد مثلت الانتخابات ما يشبه الاستفتاء على رئاسة أردوغان، الذي انخرط في الحملات الانتخابية والعمليات الدعائية لمرشح حزبه، على نحو دفعه إلى اتهام أكرم إمام أوغلو بأنه مرتبط بجماعات شاركت في الانقلاب على حكمه، وأنه سيتخذ التدابير اللازمة حيال ذلك، بما أفضى إلى تحقق نتائج عكسية تمثلت في اكتساب إمام أوغلو شعبية أكبر، أوضحها انحياز مئات الآلاف من المواطنين إلى مشروعه السياسي بعد أن غادروا معسكر الحزب الحاكم، بما يٌظهر فشل تكتيكات أردوغان الذي قاد بنفسه الحملة الانتخابية، بعد أن استنفر كل إمكانيات الدولة دون أن يستطيع التأثير على مزاج المواطن وقراره الانتخابي في إسطنبول التي يوليهما أهمية خاصة بسبب سابق رئاسته للمدينة، وإدراكه لأهميتها ورمزيتها، فضلا عن عقيدته القومية العثمانية التي يتغنّى بأمجادها.
لذلك، ففيما نجحت الحملة الانتخابية لإمام أوغلو، التي أطلق عليها شعار "كل شيء سيغدو جميلا جدا"، في بعث الشعور لدى الأتراك على أنه بات يمثل الأمل في التغيير، فإن قيادة أردوغان للحملات الانتخابية لحزبه في الانتخابات البلدية أكدت إشكالية سلطة حكم الحزب الواحد.
تداعيات انتخابات إسطنبول ومسارات ارتداداتها
بحسب الهيئة العليا للانتخابات، فقد أدلى المواطنون بأصواتهم في 31 ألف مركز انتخابي، ضمن 39 قضاء في ولاية إسطنبول، والتي تمثل من الناحية الديموغرافية، "تركيا مصغرة" تضم "جاليات" من كل أنحاء البلاد، لذلك قال عنها الرئيس التركي "من يحكم إسطنبول يحكم تركيا"، غير أن فوز مرشح المعارضة في انتخابات إسطنبول في 31 مارس/ آذار الماضي، لم يدفع أردوغان بعد ذلك بالدعوة إلى إعادة الانتخابات وحسب، وإنما أيضا إلى إعادة صوغ مقولته حول أهمية انتخابات المدينة، ليقول إنها انتخابات تبقى محصورة بـ"رئيس بلدية".
ويبدو أن تصريحات الرئيس التركي اللاحقة بشأن الترحيب بالتعاون مع أكرم إمام أوغلو بعد فوزه في الانتخابات يعكس قلقا بشأن أوضاع البلاد السياسية والحزب الحاكم، ذلك أن خسارة إسطنبول للمرة الثانية رغم إصرار حزب العدالة والتنمية على إعادة الانتخابات، يعمق من جروح الحزب ويُظهر المزيد من الانقسامات بين صفوفه، لاسيما في ظل ارتفاع أصوات كوادر حزب العدالة والتنمية من أمثال رئيس الوزراء الأسبق، أحمد داود أوغلو والرئيس السابق عبد الله غول، وانتقادهما المستمر لأردوغان، وذلك على نحو قد يؤدي تزايده إلى تصدعات كبيرة في الحزب وحكمه، بما من شأنه أن يفضى، ليس وحسب، إلى بزوغ حزب سياسي جديد من رحم حزب العدالة، وإنما أيضا إلى انشقاق كتلة ليست هينة من نوابه في البرلمان التركي، بما قد يفقده الأغلبية البرلمانية لصالح المعارضة.
وقد يعجل ذلك بإنهاء مخططات أردوغان الخاصة بدخول تركيا مرحلة "السكون الانتخابي" حتى عام 2023، حيث قد يدفع الانقسام السياسي بتصاعد الدعوات لتبكير موعد الانتخابات الرئاسية، سيما إذا ما تزامن ذلك مع تفاقم مشكلات تركيا الاقتصادية وتردي علاقاتها الخارجية، خصوصا مع الولايات المتحدة الأمريكية وشركاؤها في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. وقد يحمل ذلك تداعيات دراماتيكية على علاقات تركيا مع الجماعات الراديكالية التي سخر حزب تركيا الحكم في خدمتها كافة مؤسسات الدولة الاقتصادية والإعلامية والسياسية، وذلك على نحو قد يدفع بالتبعية إلى إعادة تشكيل سياسات تركيا الخارجية في محيطها الإقليمي.
ويبقى خيار التهدئة ثم التصعيد السياسي أو القضائي حيال أكرم إمام أوغلو أحد السيناريوهات المرجحة، فالعدالة والتنمية يعي أنه ليس محض مرشح فاز في معركة سياسية هُزم فيها الحزب الحاكم، وإنما يدرك أنه يتمتع بشخصية كاريزمية، ويمتلك مهارات خطابية، ولديه طموح سياسي جارف قد يحفزه لأن يضطلع بـ"أدوار البطولة" في مشاهد أكثر سخونة قد يتحدد بناء عليها مستقبل تركيا، خصوصا بعدما أثبت أنه ليس بمقدوره هزيمة ثاني أهم شخصية في النظام التركي وهو بن علي يلدريم وحسب، وإنما أيضا "رجل تركيا الأول" إذا ما سنحت له الفرصة، لا سيما بعدما غدا في أنظار مناصريه "أيقونتهم الجديدة" التي ستقف أمام أردوغان في انتخابات الرئاسة المقبلة.