إبطال اقتراع إسطنبول.. نحو تكريس حكم الفرد
قرار إعادة انتخابات إسطنبول يمثل إلغاء الإرادة الشعبية، وتجاهل القانون، والقفز على الإجراءات الديمقراطية ويكرس حكم الفرد في تركيا.
ارتفعت حدة الانقسام المجتمعي والتشظي السياسي في تركيا على خلفية قرار اللجنة العليا للانتخابات في 6 مايو/ أيار الجاري بإعادة الانتخابات المحلية في مدينة إسطنبول، وإبطال فوز مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض أكرم إمام أوغلو.
واتخذت اللجنة قرارها مستندة إلى دعاوى وهمية سوّق لها حزب العدالة والتنمية، من بينها كشف السلطات عن وجود علاقة بين منظمة إرهابية "حركة خدمة"، ومسؤولين في مكاتب الاقتراع خلال الانتخابات كما أن النيابة العامة توصلت إلى أن 43 مسؤولاً في لجان الانتخاب كانوا يقيمون اتصالات مع شبكة الداعية فتح الله غولن المتهم بتدبير المحاولة الانقلابية الفاشلة في صيف 2016.
وسعى حزب العدالة والتنمية طوال الأسابيع التي خلت إلى التشكيك بنتائج الانتخابات في أنقرة وإسطنبول، سواء عبر إطلاق إجراءات جنائية، متّهماً حركة غولن بالوقوف وراء التزوير، أو الزعم بوجود تناقض بين محاضر نتائج الاقتراع، وجداول عدِّ الأصوات وفرزها إضافة إلى توجيه اتهامات بليل أو من وراء ستار للمعارضة بالتلاعب في النتائج، حتى أن الرئيس التركي اعتبر أن ثمة "جريمة منظمة" عكرت صفو انتخابات إسطنبول.
التطور الذي أحدثه قرار إعادة انتخابات إسطنبول في المشهد السياسي التركي من إلغاء الإرادة الشعبية، وتجاهل القانون، والقفز على الإجراءات الديمقراطية، وحكم صناديق الانتخابات، هو تطور يكرس حكم الفرد، خاصة في ظل اتجاه الحزب الحاكم لممارسة سياسات سلطوية، ويعزز حالة الانقسام، والتي كشفت عنها التظاهرات التي عمت المدن التركية رفضاً لقرار لجنة الانتخابات.
خصوصية إسطنبول
قدر ما شكلت خسارة العاصمة أنقرة بمكانتها السياسية ضربة مؤلمة لحزب العدالة والتنمية، فإن خسارة إسطنبول كانت الضربة الأكبر للرئيس رجب طيب "أردوغان" وحزبه، الذي دائمًا ما كان يردد عبارة "من يمر بإسطنبول يفز بتركيا كلها"، كما أنها تمثل خسارة شخصية لأردوغان، فهي المدينة التي نشأ بها، وبدأ منها مشواره السياسي عندما تولى إدارتها في الفترة من 1994 حتى عام 1998، وكانت سببًا في صعود نجمه على الساحة السياسة التركية لما حققه من إنجازات كبرى بالمدينة خلال رئاسته لها.
وتحمل إسطنبول أهمية خاصة في الوعي الجمعي لحزب العدالة والتنمية، فهي المدينة ذات الكثافة السكانية الأكبر في تركيا، حيث يقطنها نحو 15 مليون نسمة، وهي أهم قوة اقتصادية في البلاد، وتساهم بنحو ثلث الناتج المحلى الإجمالي لتركيا.
في المقابل، تتمتع إسطنبول بموقع خاص في الأسواق المالية العالمية، ولها تصنيف ائتماني خاص بها. ولذلك فإن فقدان إسطنبول التي تمثل مركزا اقتصاديا شديد الأهمية يعنى فقدان حزب العدالة والتنمية لذراعه الرئيسية.
فعلى مدار العقد ونصف العقد الماضي حصد الرئيس أردوغان ثمار التناغم بين سيطرته المتوازية على الحكومة المركزية والإدارات المحلية في المراكز الاقتصادية، وقد مكّنت السيادة على إسطنبول أردوغان من الاستفادة من إيراداتها الوفيرة لخدمة مشاريعه التوسعية في المنطقة من جهة، ومن جهة أخرى تثبيت دعائم القواعد الانتخابية للحزب في القسم الشرقي من إسطنبول حيث التيار المحافظ.
على صعيد متصل، تحمل إسطنبول قيمة رمزية لدي العدالة والتنمية، باعتبارها العنوان الأبرز من بقايا "دولة الخلافة" التي طالما يسعى الرئيس التركي إلى استعادتها، ولذلك كانت خسارة إسطنبول صدمة حقيقية للرئيس التركي، أردوغان؛ الذي بنى نهجه السياسي والاقتصادي، والديني والأيديولوجي، انطلاقاً من إسطنبول العاصمة العثمانية السابقة.
إضافة لما سبق، فإن نجاح أكرم أوغلو ظل يمثل تحدياً قلقاً لأردوغان، فالأول يملك ناصية الخطاب، وله قادرة فائقة على إقناع مريديه وخصومه إضافة إلى حضوره الشعبي وسيرته الذاتية الملهمة في العمل المحلى، وهو ما يعني في جوهره السحب من رصيد أردوغان في الخطابات الدعائية التي طالما وجدت رواجاً في الشارع التركي، وكانت إحدى أدوات حضوره في صدارة المشهد.
دلالات صادمة
حمل قرار اللجنة العليا للانتخابات بشأن إعادة الاقتراع في إسطنبول في يونيو/حزيران المقبل، عدة دلالات، يمكن بيانها على النحو الآتي:
- أن عهد الصعود لحزب العدالة والتنمية في السلطة قد بلغ الذروة، وبدأت مرحلة الضعف التدريجي، والأفول، ونهاية مرحلة انفراد الحزب بالحكم، خصوصاً أن الحزب لم يعد لديه القدرة عبر الآليات الديمقراطية على تعويض التآكل في رصيده التقليدي في الشارع التركي، وتحقيق الفوز كالسابق، في ظل تعدد المشكلات الداخلية، وتزامنها مع التحديات الخارجية.
- إنّ تنظيم انتخابات جديدة، قد يمنح المعارضة فرصة لزيادة زخمها في الشارع التركي، وهي التي استطاعت بناء خطاب انتخابي أكثر إحساساً بهموم وقضايا المواطن التركي إضافة إلى النجاح في تخطي أزمة الفروق الإيديولوجية فيما بينها، وحافظت على التحالف الذي أسسته منذ الانتخابات الرئاسية في يونيو 2018.
في المقابل، قد يحمل قرار اللجنة بإبطال انتخابات إسطنبول خطراً على العدالة والتنمية، لأنه يمكن أن يمكن أن يشجع على توجه الناخبين نحو تصويت عقابي ضد أردوغان وحزبه.
- تكريس حكم الفرد: كشف قرار اللجنة العليا عن توجه أردوغان لتثبيت طموحاته السلطوية وغرس مخالبه في جسد المجتمع والإمساك وحده بمفاصل الدولة، وكان بارزاً هنا قيادة أردوغان حملة إفشال انتخابات بلدية إسطنبول، للدفع برئيس وزرائه السابق بن على يلدريم محل أكرم إمام أوغلو.
جهود أردوغان لإعادة انتخابات مدينة إسطنبول لم تمنعه من انتهاك القوانين، وإعادة تفسيرها بمنطوقه الخاص، وهو ما بدا في تفسيره المادة 8 من القانون رقم 298، والتي أكد أنها تشير إلى عدم أحقية المبعدين من وظائفهم بموجب مراسيم رئاسية من التصويت. ونجح أردوغان في تسويق هذا التفسير لدى اللجنة العليا للانتخابات، برغم عدم قانونيتها ناهيك عن دعمه حملة "التخوين" ضد المعارضة.
- تراجع الديمقراطية والحريات: أدي إلغاء فوز مرشح المعارضة أكرم أوغلو ببلدية إسطنبول في الانتخابات المحلية التي أجريت في نهاية مارس/آذار الماضي، إلى تراجع الديمقراطية، ودخول البلاد نفق مظلم.
كما كشف عن حجم الصلاحيات المطلقة وحجم التأثير الذي يمارسه أردوغان على أجهزة الدولة ومؤسساتها، حيث واصل الضغط على اللجنة العليا لإبطال نتائج بلدية إسطنبول.
فقد كانت الانتخابات المحلية الأخيرة بمثابة استفتاء على شرعية أردوغان وشعبيته، ومثلت نجاحات المعارضة في الفوز بالمدن الكبيرة ضربة قاصمة لأردوغان، وفرصة مناسبة من أجل استرجاع الديمقراطية والحريات العامة.
تداعيات مستمرة
الأرجح أن قرار اللجنة العليا بإبطال فوز مرشح حزب الشعب الجمهوري أكرم أوغلو، ترتب عليه جملة من التداعيات السلبية على موقع وموضع تركيا.
-فعلى خلفية إعادة انتخابات إسطنبول يتوقع تعزيز فرص الانشقاقات داخل حزب العدالة والتنمية، لا سيما أن جناحا معتبرا داخل الحزب يرفض توجهات أردوغان، ويطالب بإقرار نتيجة الانتخابات المحلية مقابل تقييم سياسي نزيه لتجربة الحزب لبيان نقاط ضعفه.
وكان أحمد داود أوغلو قد وجه قبل أيام جملة رسائل في رسالة واحدة إلى أردوغان بتقييمه لتجربة الانتخابات المحلية التي أجريت في 31 مارس الماضي.
وجاء تقييم أوغلو لاحقا لتقييم مماثل للرئيس السابق عبدالله غل، انتقد فيه الجدل حول نتائج الانتخابات المحلية في إسطنبول، وصوب أوغلو وغل سهام رسائلهما بشكل مباشر إلى أردوغان، الشخصية الذى ندر أن انتقده أحد من قادة حزبه.
- تكريس حالة الاستقطاب في تركيا، فالتطورات الأخيرة بخصوص إسطنبول تؤكد الانتهازية السياسية التي طبعت مسلكية حزب العدالة والتنمية في السنوات الأخيرة. كما أن إعادة انتخابات إسطنبول، أسقطت في المهد المقاربة التي روج لها أردوغان مؤخراً "تحالف تركيا"، والتي زعم فيها البناء لمرحلة جديدة تجمع على قدم المساواة كل القوى السياسية في البلاد، وتعلي قيم وحقوق الأقليات، ولإقرار سلام اجتماعي باتت تركيا تفتقده.
وتصاعد السجال بين حكومة حزب العدالة والتنمية، وبين أحزاب المعارضة بشكل حاد على خلفية إبطال انتخابات إسطنبول بطلب من الحزب الحاكم، دون مراعاة الظروف المحيطة أو تهيئة المناخ المشحون، وأدان حزب الشعب الجمهوري قرار اللجنة العليا للانتخابات بوصفه "لا ديموقراطي ولا شرعي"، وأعلن مواصلته "النضال ضد استبداد السلطة الحاكمة".
كما انتقدت ميرال أكشينار رئيسة حزب "الخير" قرار اللجنة، قائلة "إن يوم 6 مايو الذي أعلنت فيه اللجنة العليا الانتخابات قرارها لإعادة انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول، بات تاريخ انتهاك إرادة الأمة". وأضافت أن "هذا التاريخ هو التاريخ الذي تعرضت فيه دولتنا للمهانة أمام العالم"، مشيرة إلى أن قرار اللجنة العليا "استهدف الإرادة الوطنية، ونحن لن نصمت حيال هذا القرار".
-أدى قرار إعادة انتخابات إسطنبول إلى حدوث هزة عميقة في الأسواق المالية التركية، حيث هبط سعر صرف الليرة مجدداً أمام الدولار بنسبة 1,03 في المائة، كما تصاعدت المخاوف من حدوث اضطرابات سياسية طويلة الأمد، ويعتقد قطاع واسع من المستثمرين أن إعادة الاقتراع في إسطنبول يفسح المجال لتوتر سياسي، وإجراءات اقتصادية شعبوية من شأنها أن تزيد من تأخير الإصلاحات الهيكلية الرئيسية اللازمة للمساعدة في تصحيح الاقتصاد، وتشويه مكانة البلاد الديمقراطية المتداعية.
-التوجه نحو إعادة الانتخابات في إسطنبول، زاد من تدهور صورة تركيا على الساحة الدولية، وكان بارزاً، هنا، تصاعد التصريحات الصادرة عن العديد من الدول الأوروبية الرافضة للقفز على الممارسة الانتخابية بعد قرار استبعاد أكرم أوغلو من منصب رئيس بلدية إسطنبول.
فمن جانبه جدد المستشار النمساوي زيباستيان كورتس مطالبته بإنهاء مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، وأضاف: "ليس لدى من لا يقبل الانتخابات الديمقراطية شيء يبحث عنه في الاتحاد الأوروبي".
وفي ألمانيا، انتقدت الخارجية إعادة الانتخابات بوصفه "غير شفاف وغير مفهوم بالنسبة لنا"، كما أعربت كلاوديا روت، نائبة رئيس البرلمان الألماني عن غضبها حيال القرار، وقالت: "قرار اللجنة هو نتاج للضغط الكبير من المستويات العليا، وهذه إشارة مخيفة، فالرئيس رجب طيب أردوغان، وحزبه العدالة والتنمية يبدو وكأنه عازم على إثبات خطأ كل من كان قد تمنى حدوث تحول ديمقراطي بعد الانتخابات البلدية".
وختامًا، فإن التوجه نحو إعادة انتخابات إسطنبول دون سند قانوني مقنع، يثبت محورية الرئيس أردوغان في الإمساك بتلابيب المشهد التركي، بعد أن منحته التعديلات الدستورية التي تم الاستفتاء عليها في أبريلظ/نيسان 2017 صلاحيات مطلقة على حساب السلطة التشريعية والقضائية.
وبالرغم من أن إقرار أردوغان بخسارة إسطنبول، وقبوله النتيجة، كان سيعطي إيحاء إيجابيا بأن فضاء الحرية، وحتى فضاء الممارسة الديمقراطية ما زال موجودا في تركيا، رغم التحول الاستبدادي الذي تشهده منذ عدة أعوام، إلا أن ثمة إصرارا على تكريس حكم الفرد في تركيا، وهو ما سيتطلب بالضرورة جهدا أكبر للمعارضة، ولجناح الممانعة داخل حزب العدالة والتنمية الذي يشهد انشقاقات داخله، واتجاه عدد من قياداته خاصة التاريخية لتأسيس حزب جديد.