يستطيع أردوغان أن يغرس رمحه في الطاحونة الليبية أو السورية أو الأوروبية، إلا أنها سوف تطحن عظامه.
المكاسب التي حققها أردوغان في ليبيا مؤقتة، فهذه البلاد لا بد أن تعود لتكون موحدة، والأزمة فيها لا بد وأن تنتهي على أسس تضمن قيام دولة حديثة.
ما فعله أردوغان هناك هو أنه راهن على مليشيات وعصابات، وزاد فوقها مرتزقة، وما هذه إلا مجموعات زائلة قد يتحول بعضها الى أحزاب، إلا أن ارتباطها بماض دموي يجعل فرصها محدودة باستمرار. ثم أن المسالك التي اتبعتها تحت إشراف مخابرات أردوغان، هي نفسها مسالك لا بد لمجتمع عاقل، ودولة قانون، ونظام مستقر على أسس العدالة والمساواة، أن يُدينها ويلاحق ما خلفته من جرائم ومظالم.
ثم إن مصالح قائمة على الابتزاز والنهب والاستغلال المسلح للفرص، لا يمكنها أن تدوم. ليبيا أكبر في الواقع من أن تكون لقمة بفم تركيا. فحتى ولو وجدت أنقرة منفذا لشركاتها، فإن هذا المنفذ إشكالي بوضوح، وعندما يكون موضع جدل، فإنه سوف ينغلق في آخر المطاف.
يستطيع أردوغان أن يغرس رمحه في الطاحونة الليبية أو السورية أو الأوروبية، إلا أنها سوف تطحن عظامه.
يتطلع أردوغان إلى أن يُحوّل تركيا إلى دولة استعمار جديدة، وتواجه هذا التطلع أربع مشكلات كبرى.
الأولى، هي أن فرض المصالح بالقوة المسلحة لم تعد بضاعة صالحة للاستخدام، وتخلت عنها كل الدول الاستعمارية القديمة، ليس لأنها كانت سببا لحركات استقلال، بل لأن تكاليفها صارت أعلى من عائداتها.
والثانية، هي أن الدول الاستعمارية القديمة لم ترحل إلى المريخ. بمعنى أنها ما تزال تملك الأدوات والقوة لكي تحافظ على مصالحها في أي مكان غادرته، لا يستطيع أردوغان أن يستغفل إيطاليا في ليبيا، ولا أن يستغفل فرنسا ولا حتى الولايات المتحدة.
والثالثة، هي أن إمكانيات تركيا الاقتصادية لا تعدو كونها إمكانيات ثانوية، من ناحية لأنها أضعف من أن تشكل قوة منافسة حقيقية، ولن توفر التمويل اللازم لنظام ذي تطلعات استعمارية ومن ناحية أخرى، لأن العلاقة التركية بين القوة الاقتصادية وبين التطلعات الاستعمارية تبدو علاقة مقلوبة، فبينما كانت القوة العسكرية للدول الاستعمارية تسير في طريق تمهده القوة الاقتصادية، فان دولة أردوغان تفعل العكس. أي أن شركاتها تمضي في طريق تمهده القوة العسكرية، هذه الشركات نفسها تقف على حافة الإفلاس بإجمالي ديون يزيد على 230 مليار دولار، وكانت ستحظى بفرض أفضل للتجارة لو أنها لم تتحول إلى تابع لـ"دون كيشوت" آخر، يحارب طواحين الهواء ظنا منه أنه يؤدي مهمة مقدسة.
أما الرابعة، فإن تركيا ليست بالقوة العسكرية التي يُعتد بها حقا، صحيح أن جيشها هو ثاني أكبر جيش في الحلف الأطلسي بعد الولايات المتحدة، ولكنه أضعف بكثير من ناحية القدرات العسكرية من أي جيش كبير آخر في الحلف، الجيش التركي لم يُختبر في حرب، ولا حقق نصرا في أي مكان، ولا هو كسب الحرب الداخلية التي يخوضها ضد مسلحي حزب العمال الكردستاني أيضا، وقياداته نفسها ليست على علاقة غرام بأردوغان، وتتمنى لو أنها تخلصت منه.
المكاسب التي حققها أردوغان مؤقتة على النحو نفسه في سوريا، فالأزمة هناك سائرة في طريق الحل حتى ولو طال، وموطئ القدم الذي يسعى أردوغان لاحتلاله يبدو كموطئ قدم الأرنب بين فيلين كبيرين هما روسيا والولايات المتحدة. يسمحان له باللعب بين أقدامهما، ولكنهما مستعدان لسحقه في أي وقت.
المؤقت قائم حتى في قبرص أيضا، فبرغم أن هذه الجزيرة مقسمة منذ العام 1974، حيث أدى الغزو التركي في 20 يوليو من ذلك العام إلى إنشاء "جمهورية" خاصة بالقبارصة الأتراك خاضعة لأنقرة، إلا أن عضوية قبرص في الاتحاد الأوروبي، ومصالح شعبي الجزيرة التي تتقارب باستمرار وفقا للأسس والمعايير الأوروبية، تشكل قوة دافعة لاستعادة الوحدة.
وإذ لاحظ الأوروبيون ما تفعله عصاباته ومليشياته الإخوانية في ليبيا، فقد قالوا له بوضح: ليبيا لن تكون قبرص أخرى، ولن يتم تقسيمها.
المؤقت، هو معضلة أردوغان الحقيقية والسياسي الذي يبني مصالحه أو مصالح بلاده على مؤقت، إنما يبني قصوره على الرمال.
أردوغان هو نفسه مؤقت، إذ لن تمضي بضع سنوات حتى يرحل ليحل محله رئيس أكثر عقلانية، وأكثر فهما لحقائق العالم الذي تعيش فيه تركيا، بل وأكثر استعدادا للعودة إلى سياسة "صفر مشاكل" التي كانت، في الأساس، سببا لصعود تركيا قبل أن يهبط بها أردوغان.
وذكراه مؤقتة أيضا، فبأعمال القهر والاستبداد والاعتقالات التي طالت مئات الآلاف من الأتراك، وبالانقسامات التي يشهدها حزبه، بسبب سياساته التسلطية، وبالمواقف العدائية التي يتبناها حيال أوروبا، وخياراته الحمقاء في المواجهة، تارة مع روسيا وأخرى مع الولايات المتحدة، فإنه يبدو كمن يحفر لنفسه حفرة تتعمق كل يوم، لكي تدفن فيها تركيا اسمه وسياساته وكل العار الذي حمله لعلاقات تركيا مع دول المنطقة والعالم.
يستطيع أردوغان أن يغرس رمحه في الطاحونة الليبية أو السورية أو الأوروبية، إلا أنها سوف تطحن عظامه، وعندما يعود ليستفيق من جنونه، يكون الوقت قد فات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة