تنتقل تركيا عمليا من سياسة "صفر مشكلات" التي انتهجها هذا النظام في بداية حكمه وضمنت له التطور الاقتصادي
من يتابع السياسة الخارجية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ صعود حزبه للسلطة في عام 2002 وحتى اليوم، وبصورة خاصة منذ اندلاع ما يسمى "الربيع العربي"، يلحظ بوضوح التقلب الشديد لهذه السياسة وانتقالها من النقيض إلى النقيض، بصورة يصعب معها تحديد توجه واضح لها، أو رسم خط ناظم لهذه السياسة الأردوغانية يمكن فهمه، ربما باستثناء الدعم التركي الثابت للجماعات والعناصر المتطرفة منذ اضطرابات عام 2011، واستغلالها كأدوات لتعزيز النفوذ التركي في العالم العربي.
تنتقل تركيا عمليا من سياسة "صفر مشكلات" التي انتهجها هذا النظام في بداية حكمه وضمنت له التطور الاقتصادي وتحسين علاقات أنقرة مع مختلف دول العالم ومع محيطها الإقليمي، إلى "صفر ثقة" و"صفر سلام"
وتمثل العلاقات التركية - الروسية نموذجاً واضحاً لهذا التقلب في السياسة التركية الأردوغانية، فخلال الفترة من عام 2011 إلى اليوم، شهدت هذه العلاقات انتقالا ملفتا من الصدام الذي وصل إلى حافة الحرب عقب إسقاط تركيا طائرة عسكرية روسية على الحدود التركية - السورية عام 2015، إلى التعاون الاستراتيجي بين البلدين في الملف السوري، بعد قيام أردوغان بالاعتذار رسمياً عن واقعة إسقاط الطائرة الروسية، الذي عبر عن نفسه من خلال محاولة الثلاثي الروسي - التركي - الإيراني فرض تسوية للأزمة السورية عبر مسار أستانة، بعيداً عن أي دور عربي أو دولي، ووصل هذا التعاون إلى حد تحدي أنقرة حلفاءها في حلف الناتو وتوقيع صفقة شراء منظومة الدفاع الجوي الروسي "إس 400"، التي وترت علاقاتها مع واشنطن، قبل أن تعود هذه العلاقات التركية - الروسية إلى دائرة التوتر والصدام من جديد على خلفية التصعيد العسكري الأخير في محافظة إدلب السورية، وتأكيد أردوغان أن قيام بلاده بتنفيذ عملية عسكرية مباشرة لإيقاف العملية العسكرية للجيش السوري، المدعوم من قبل روسيا، ضد المعارضة المسلحة المدعومة من أنقرة، في إدلب أصبح "مسألة وقت".
التوتر التركي - الروسي لم يقتصر على الملف السوري، المفتوح على سيناريوهات التصعيد العسكري والتهدئه، بل امتد إلى الملف الليبي مع اتهام أردوغان روسيا بشكل صريح بأنها تدير النزاع الدائر في ليبيا "على أعلى مستوى"، وتأكيده أنه لن يتخلى عن دعم حكومة الوفاق والمليشيات التابعة لها في مواجهة الجيش الوطني الليبي المدعوم روسياً وإقليميا ودوليا. وفي جميع هذه المواجهات لا يعطي الرئيس التركي تبريرات مقنعة عن سبب تدخل بلاده العسكري في دول وأزمات عربية، والدخول في معارك سياسية وعسكرية لا ناقة له فيها ولا جمل.
هذه السياسة التركية المتقلبة، لم تقتصر على روسيا، بل شملت تقريبا جميع القوى الغقليمية والدولية التي تتعامل معها أنقرة، مثل الولايات المتحدة التي أثبت تحرك تركيا باتجاه روسيا وقيامها بشراء منظومة صواريخ "إس 400"، أنها حليف غير مستقر أو موثوق به لواشنطن وحلف الناتو، كما اصطدمت تركيا مع واشنطن في عدة ملفات أخرى؛ من بينها التدخل التركي ضد الأكراد المدعومين أمريكياً في الشمال السوري، والاتهامات التركية لواشنطن بدعم محاولة الانقلاي العسكري الفاشلة على نظام أردوغان عام 2016، بشكل أثار التساؤل حول ما إذا كانت أنقرة لا تزال تستحق لقب الحليف لواشنطن. وكذلك الحال مع أوروبا، التي اصطدمت معها أنقرة في العديد من الملفات؛ من بينها ملف المهاجرين، والملف الليبي، والملف اليوناني - القبرصي، إضافة إلى ملف انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي الذي يبدو أنه رفع من على جدول المناقشات الأوروبية لأجل طويل بسبب السياسات التركية.
واصطدمت قبل ذلك بالدول العربية بسبب سياساتها الداعمة لجماعات التطرف والإرهاب في الدول العربية، وتدخلاتها العسكرية في أزمات المنطقة، لا سيما الأزمتين السورية والليبية. كما اصطدمت حتى بالهند مؤخراً بعد تصريحات أردوغان بشأن إقليم كشمير المتنازع عليه بين الهند وباكستان، التي دفعت نيودلهي إلى استدعاء السفير التركي للاحتجاج على هذه التصريحات.
لقد أسهمت سياسات أردوغان المتقلبة في توتير علاقات تركيا بجميع دول العالم تقريباً، لتنقل تركيا عملياً من سياسة "صفر مشكلات" التي انتهجها هذا النظام في بداية حكمه وضمنت له التطور الاقتصادي وتحسين علاقات أنقرة مع مختلف دول العالم ومع محيطها الإقليمي، إلى "صفر ثقة" و"صفر سلام" مع مختلف القوى المحيطة بها، ربما باستثناء بضع دول صغيرة لا تزال تدور في الفلك التركي، وهذا في حد ذاته كفيل بأن يضع كل إنجازات هذا النظام في مهب الريح، إن لم تكن قد ذهبت بالفعل أدراج الرياح.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة