ربما لم يرتبط الرئيس المصري الراحل بأحد قدر ارتباطه بالشيخ زايد رحمه الله، فقد وجد مبارك في زايد الخير رمزا للوفاء والإخلاص
كل نفس ذائقة الموت، حكم إلهي لا يملك المرء تجاهه إلا التسليم بقضاء الله الذي لا راد لقضائه، وإن كانت لحظات الفراق كاشفة لتاريخ البشر، وداعية لتأمل سيرة ومسيرة الكبار.
رحل عن عالمنا حسني مبارك، المصري الوطني بامتياز، ذاك الذي طلب من قائد الحرس الجمهوري ألا يطلق رصاصة واحدة على أي متظاهر، حتى وإن بلغوا غرفة نومه.
رحل الرجل الذي عصم دماء المصريين، وفضل التنحي والغياب من الصورة، وتسليم مقاليد الأمور إلى المؤسسة التي يثق في نزاهتها وقدرتها على إدارة شؤون البلاد، وطوال نحو تسع سنوات من مغادرته منصب الرئاسة، لم تخرج من فمه إساءة لمصر، أو سرب سرا من أسرار الدولة.
أصوات كثيرة في الداخل والخارج طالبت بضربة تأديبية للنظام الحاكم في السودان حينها، إلا أن مبارك رفض الأمر شكلا وموضوعا، وحتى لا يكتب التاريخ أن المصريين هاجموا أشقاءهم في السودان ذات يوم
يكفي الأجيال الصاعدة أن تقرأ في دفاتر التاريخ أنه الرجل الذي كاد يبكي في خطابه الأخير، معتبرا أن مصر أرض المحيا والممات، وقد كان صادق الوعد والعهد، فلم يغادرها في حين كان قرار الفرار إن جاز التعبير متاحا، كما فعل بعض قادة دول مجاورة، ولم يبدِ أي اعتراض على سلسلة محاكمات وقف وراءها داخل القفص متهما، وفي احترام كبير لرجال القضاء، كان صوته يجيء من خلف القفص: "أفندم.. نعم أنا موجود"، إلى أن قال القضاء المصري الشامخ كلمته ببراءته.
الذين قدر لهم متابعة وسائط الاتصال الاجتماعي في الساعات التي أعقبت إعلان نبأ وفاة الرئيس الأسبق حسني مبارك، ربما أدهشتهم حالة الحزن والأسى التي عمت جموع المصريين، والتي تجلت في كتابات وعبارات جعلت البعض يتساءل سؤالا عميقا، من إذن كانوا هؤلاء الذين خرجوا رافعين أصواتهم الزاعقة وراياتهم الفاقعة.. "ارحل، ارحل" قبل تسع سنوات؟
مهما يكن من أمر الجواب، فقد أثبت مبارك في يناير/كانون الثاني 2011 أنه قائد وطني ومناضل لا يشق له غبار في ميدان الحفاظ على أمن مصر وسلامة أراضيها ووحدة أبناء شعبها، وسلامتهم من أخطار المجابهات الداخلية.
أحسن كثيرا جدا معالي وزير الدولة للشؤون الخارجية الدكتور أنور قرقاش حين أشار في تغريدته عبر "تويتر" إلى أن العالم العربي برمته وليس مصر فقط، قد فقدت اليوم رجل دولة، وصاحب مواقف وطنية وتاريخية كبرى، تميز بالحكمة والشجاعة.
ربما لم يرتبط الرئيس المصري الراحل بأحد قدر ارتباطه بالشيخ زايد رحمه الله، فقد وجد مبارك في زايد الخير رمزا للوفاء والإخلاص، وفي مداخلات عديدة أشار إلى أنه حين كان قائدا للقوات الجواية وخلال الاستعداد لحرب تحرير الأرض درج على أن يرسل إلى الإماراتي الأب والمؤسس برغبته في تجديد شباب سلاح القوات الجوية المصرية، الأمر الذي كان يسارع زايد الخير في تلبيته بأسرع من البرق.
استمرت العلاقة بين مبارك وزايد منذ أوائل السبعينات إلى أن رحل حكيم العرب تاركا في النفوس والقلوب خير الأثر، ومؤخرا وعبر حوارات مكتوبة ومذاعة لمبارك رحمه الله عرفنا كيف كان مبارك حريصا كل الحرص على الإمارات وشعبها، لا سيما في أوقات المحن والملمات.
أشقاء طوال عقود عاش مبارك وزايد، ومن بعدهما استمرت العلاقات الإماراتية - المصرية في مسارات الازدهار، وبدا أن "عيال زايد" مخلصون كل الإخلاص ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، في تنفيذ وصية الأب الكريم التي تركها بشأن مصر والمصريين، ولا تزال جموع المصريين تذكر المواقف التاريخية للقيادة الإماراتية التي ساندت ثورة المصريين في 30 يونيو/حزيران ضد جماعات الظلام ودعاة الإرهاب، وظني أن هذا أمر سوف يبقى مكتوبا بمداد من الذهب في أضابير تاريخ العلاقة بين الشعبين الشقيقين.
في رحيل مبارك تسترجع الذاكرة الجمعية مواقف عروبية كبيرة ومثيرة للرجل الذي بات بين يدي الله، ونسأل له الرحمة والغفران، فقد كان وعن حق رئيسا وطنيا وشريكا موثوقا في قيادة العالم العربي.
اتسمت عقود مبارك الثلاثة بكثير جدا من العقلانية وضبط النفس، لا سيما مع دول الجوار، التي لم تنفك تثير ثائرة مصر والمصريين، ولكنه كان في صبره مضربا للأمثال، فقد حدث ذات مرة من عام 1986 أن هدد القذافي بضرب السد العالي بالصواريخ، ولو وجد وقتها في مصر رئيسا عاطفيا اندفاعيا، لأعلنت مصر الحرب على ليبيا.
وفي يونيو/حزيران من عام 1995، تعرض مبارك لمحاولة اغتيال فاشلة في أديس أبابا، وقد بلغ تاليا أسماع وأفهام القاصي والداني أن جماعة الإخوان المسلمين هم السبب وراء المؤامرة، وعلى الرغم من أن أصواتا كثيرة في الداخل والخارج قد طالبت بضربة تأديبية للنظام الحاكم في السودان حينها، إلا أن مبارك رفض الأمر شكلا وموضوعا، وحتى لا يكتب التاريخ أن المصريين هاجموا أشقاءهم في السودان ذات يوم، ما يعني أن الرجل لم يتوقف عند مسألة كرامته الشخصية، وإنما فضل مصالح الدولة المصرية وعلاقات الأخوة التي لن تنفصم عراها مع الشعب السوداني.
يحتاج الحديث عن مبارك إلى صحف وأقلام وحبر مسال، فقد كان صاحب تجربة كبيرة، أخطأ وأصاب كشأن البشر في المسير، فهو ليس إلها، وها هو التاريخ كما قال في آخر خطبة له يذكر أنه كان قائدا وطنيا بامتياز.
رحم الله الرئيس الأسبق مبارك وأسكنه فسيح جناته.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة