ليس من قبيل المبالغة القول إن أنشطة التجسس كانت جزءاً رئيسياً من تطور العلاقات بين الدول، حيث سعت كل دولة إلى التعرف على أوضاع الدول التي تربطها بها مصالح ذات شأن، وجمع الأخبار عنها والتعرف على أهداف سياستها الخارجية وأدواتها.
وكان هذا السعي يتم عموماً بأساليب قانونية وعلانية، وأخرى سرية وخفية وغير قانونية، وهو ما يطلق عليه "الجاسوسية".
لذلك، فإن الجاسوسية من الظواهر المُبكرة في التاريخ، فتعود إلى الحضارة المصرية القديمة، وعهد المدن الإغريقية، خصوصاً في فترات الصراع بين أثينا وإسبرطة، والتي حرص فيها كل طرف على معرفة ما يحدث في معسكر العدو، ومارستها جميع الدول من اليابان والصين والهند إلى إنجلترا وروسيا وأمريكا، وغيرها من الدول.
أصبحت الجاسوسية عِلماً له أصوله وقواعده، وله مدارسه ومعاهده، التي تقوم باختيار المرشحين الذين تتوفر فيهم المؤهلات المطلوبة، وتتولى تدريبهم وتهيئتهم لإنجاز المهام المطلوبة منهم.
ومع تطور التكنولوجيا، تقدمت أساليب التجسس وأدواته، حتى وصلنا اليوم إلى الجاسوسية السيبرانية، التي توظف تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والبرمجيات المتقدمة في التجسس على أجهزة الحاسوب والهواتف الذكية.
في هذا السياق، فإن التجسس على الاتصالات الهاتفية بين كبار المسؤولين في دولة ما، أو بين عاصمة الدولة وسفاراتها ومكاتبها في الخارج، صار هدفاً ثميناً سعت إليه أجهزة مخابرات دول العالم، وكان للمخابرات الأمريكية السبق والريادة في هذا المجال.
على سبيل المثال، في عام 2013 تم الكشف عن قيام الولايات المتحدة بالتجسس على هواتف عدد من القادة الأوروبيين، منهم المستشارة الألمانية ميركل.
وفي عام 2015 كشف موقع "ويكيليكس" عن وثائق تبين قيام أمريكا بالتجسس على ثلاثة رؤساء فرنسيين، وهم شيراك وساركوزي وهولاند.
ولعل من أهم أنشطة التجسس عملية "روبيكون"، التي قامت بها شركة سويسرية أنشأتها كل من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وجهاز المخابرات الألمانية، لبيع أجهزة تشفير ونُظُم اتصالات هاتفية تسمح بالتجسس على مستخدميها ومعرفة مضمون الرسائل المتبادلة بينهم.
وعملت هذه الشركة لمدة خمسين عاماً باعت فيها أجهزة تشفير لنحو 120 دولة.
وكانت النتيجة نجاح المخابرات الأمريكية والألمانية في الحصول على أموال هذه الدول وأسرارها في الوقت نفسه، وظلت هذه الصفحة من تاريخ الجاسوسية مطوية حتى كشف عنها تسريب نشرته جريدة "نيويورك تايمز" الأمريكية في فبراير 2020.
وفي عام 2021، كشفت الدنمارك عن قيام المخابرات الأمريكية بالتجسس على كبار السياسيين في ألمانيا والسويد والنرويج وفرنسا، من خلال كابلات الإنترنت البحرية الموجودة في أعماق المياه الإقليمية للدنمارك، وذلك خلال الفترة من 2012 إلى 2014.
والأمثلة كثيرة عن أنشطة الجاسوسية، التي قامت بها الدول الكبرى، والتي لم تقتصر على الجانب السياسي والأمني، بل امتدت إلى سرقة المعلومات الخاصة بالمبتكرات العلمية والطبية والصناعية.
ومع التطور المذهل في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، ازداد التنافس بين الدول الكبرى في تطوير تطبيقات وبرامج الجاسوسية السيبرانية، وأُنشأت هيئات وإدارات متخصصة لتطوير برامج التجسس والاختراق من ناحية، وبرامج توفير نُظُم الأمان والحماية من ناحية أخرى.
ولم يقتصر أمر تطوير هذه البرامج على الأجهزة الرسمية للدول، وإنما شملت أيضاً الشركات الخاصة، التي تكون عادة مرتبطة بأجهزة الأمن في بلادها.
وهناك جدل حول شرعية استخدام هذه البرامج، فالدول والشركات، التي تطورها وتبيعها، تجادل في أن هدفها هو محاربة الإرهاب والتجسس على العناصر الإرهابية والإجرامية، والكشف عن خططها واستخدام هذه المعلومات لمنعها من تنفيذ تلك الخطط، وأنه لا يتم بيعها إلا للجيوش وأجهزة الأمن وهيئات إنفاذ القانون.
وقامت غالبية الدول الغربية بشرعنة وإعطاء المبرر القانوني لذلك، ومنها قرار المحكمة الدستورية العليا في ألمانيا عام 2016 بشرعية استخدام أجهزة الأمن لهذه البرامج، ضد العناصر التي تمثِّل تهديداً للأمن القومي الألماني.
ولكن المشكلة تكمن في استخدام بعض الدول وأجهزة الأمن لهذه البرامج في غير مكافحة الإرهاب وتعقب الإرهابيين، مثل تعقب الخصوم السياسيين أو التجسس على شخصيات سياسية دولية، وعلى الصحفيين وأصحاب الرأي، مما يمثِّل تهديداً لحرية الرأي التي تُعتبر أحد المبادئ الرئيسية للنُظُم الديمقراطية الغربية.
من الأرجح أن الجاسوسية عموماً، والجاسوسية السيبرانية خصوصاً، لن تتوقف، وسوف يظل صراع العقول بين الذين يبتكرون نُظُم الأمان الإلكتروني لأجهزة الحواسب والهواتف الذكية، وبين أولئك الذين يسعون إلى اختراقها وانتهاك أسرارها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة