أوروبا الحائرة بين التوجه الأطلسي والاستقلال
![هل يشهد الاتحاد الأوروبي تحولات سياسية مقبلة؟](https://cdn.al-ain.com/lg/images/2019/8/09/113-150951-europe_700x400.png)
هل تسمح ظروف الاتحاد الأوروبي بذلك التحول من الاقتصادي إلى السياسي.. ثم الاستراتيجي بعد ذلك؟ وهل الظروف مواتية لإجراء هذا التحول؟!
درج العديد من الكتاب والمتخصصين في الشأن الأوروبي منذ سنوات عديدة مضت على القول إن الاتحاد الأوروبي "عملاق اقتصادي"، ولكنه "قزم استراتيجي وعسكري وسياسي"، وإن مكانته الاقتصادية في عالم اليوم لا تتلاءم مع وزنه السياسي والاستراتيجي.
ويمكن القول إن السياسات الأمريكية والأوروبية في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وقبل نشوب الأزمة الأمريكية مع إيران لم تكن متطابقة، فثمة العديد من الملفات والقضايا الدولية التي تختلف فيها توجهات السياسة الأوروبية عن السياسات الأمريكية؛ مثل قضايا المناخ والاتفاق المتعلق به والموقع في باريس وصراع الشرق الأوسط وأيضا الملف النووي الإيراني.
وقد حاول الاتحاد الأوروبي، منذ نشوب الأزمة وفرض العقوبات الأمريكية المتتالية على طهران، البحث عن طريق آخر للتعامل مع إيران، وتجنب العقوبات الأمريكية، وقد وجد الاتحاد الأوروبي تحت اسم "أنستكس" مكانيزم تجاري يسمح للدول الأوروبية التي تتاجر مع إيران باستمرار تعاملاتها التجارية، دون الوقوع تحت تأثير العقوبات الأمريكية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو هل تسمح ظروف الاتحاد الأوروبي الراهنة بذلك التحول من الاقتصادي إلى السياسي.. ثم الاستراتيجي بعد ذلك؟ وهل الظروف مواتية لإجراء هذا التحول؟!
قد يكون من الصعب تقديم إجابة هذا السؤال بطريقة حاسمة، في حين أنه يمكن تشخيص ملامح ومعالم الأزمة التي تحيط بالبناء الأوروبي وتلقي الضوء على مستقبله وكيفية تجاوزه للتحديات الراهنة؛ إذ يواجه الاتحاد الأوروبي العديد من التحديات التي يمكن إجمالها في النقاط التالية:
1- تغيرات عميقة في الفضاء السياسي الأوروبي
وهذه التغيرات على صعيد مؤسسات البناء الأوروبي أو داخل العديد من الدول الأوروبية؛ حيث يبدو أن الانقسام التقليدي على الصعيد الأوروبي بين اليمين واليسار، أي بين الأحزاب السياسية التي تمثل هذه التيارات قد ولّى إلى أجل غير مسمى، حيث أصبح الانقسام بين اليمين واليمين المتطرف، وحلت الحركات السياسية الجديدة في العديد من الدول الأوروبية محل هذه الأحزاب، وتصدرت المشهد، وتقلص وجود أحزاب اليمين واليسار إلى خلفية المشهد السياسي، وهذا التغير يبدو أنه وجد لكي يستمر لسنوات طويلة قادمة بعد أن سئم الناخبون من الخطاب الخشبي لهذه الأحزاب وعدم قدرتها أو كفاءتها في إدارة الشأن العام، وتضع الآن نفسها تحت إمرة وسائل التواصل الاجتماعي وأسلوبها المباشر وغير المتعمق.
2- ظهور الشعبوية اليمينية
يمكن اعتبار أن ظهور الشعبوية اليمينية في أوروبا هو الوجه الآخر لنهاية الانقسام بين اليمين واليسار وتقلص تأثير أحزابهما، حيث تصاعد تمثيلها في المؤسسات الاتحادية الأوروبية بحيث أصبحت القوة الثالثة بعد الليبراليين والاشتراكيين الديمقراطيين والخضر، ونتيجة لكل ذلك فإن عدم الاستقرار يميز المناخ السياسي الأوروبي الآن، وربما لفترة قادمة أخرى، وهو ما يجعل بعض الباحثين في الشأن الأوروبي يتوقعون ألا تكون أزمة "بريكسيت" البريطاني هي آخر المطاف، بل يمكن لتداعيات عدم الاستقرار حدوث أزمات أخرى.
3- خلل في الأنظمة السياسية والآليات الدستورية
تشير بعض اقتراحات الخبراء والمخططين الاستراتيجيين الذين يعكفون على دراسة مظاهر أزمة البناء الأوروبي إلى "خلل هيكلي" في الأنظمة السياسية والآليات الدستورية، لتشكيل حكومات مستقرة وشيوع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ومعالجة هذا الخلل لن تتأتى إلا في حالة إجراء تعديلات دستورية تشجع وتسهل تشكيل التكتلات السياسية الكبيرة وتضمن استمرار الائتلافات الحكومية كما هو الحال في ألمانيا مثلا.
وفضلا عن ذلك فإن تبني العولمة والسياسات النيوليبرالية قد فاقم غنى بعض الفئات وثيقة الصلة بدورة العولمة المالية والبنكية والرقمية، في حين أنه ضاعف من تهميش فئات أخرى بعيدة عن المراكز المالية والحضرية المرتبطة بالعولمة في المناطق الهامشية والريف الأوروبي، في هذا السياق فإن تعبير "بيروقراطية بروكسل" المتداول في أوروبا شعبيا لا يخلو من دلالة؛ أي أن مسؤولي الاتحاد القابعين في مكاتبهم في بروكسل غير قادرين على تلمس نتائج السياسات التي يفرضونها على الدول الأوروبية.
4- انتهاء جيل الزعامات القوية
ثمة عدد من الخبراء يرون أن أوروبا تعاني من انتهاء جيل الزعامات القوية، مثل ديجول هلموت كول ومتيران وآخرين، فهذه الزعامات كانت تحظى بشعبية وجاذبية، منحت أوروبا صوتا متميزا وقويا، وقد دخلت أوروبا الآن الزمن العادي والغامض الذي قد يدفع إلى مقاعد الصدارة والقيادة بزعامات لا تحظى بالكاريزما الكافية لدفع المشروع الأوروبي، وذلك لأن عالم اليوم بوسائل التواصل والبث المباشر والتكنولوجيا الرقمية قد لا يسمح بإنتاج مثل هذه الزعامات.
5- تآكل العلاقة الأطلسية مع الولايات المتحدة
تواجه أوروبا تحديا آخر لا يقل أهمية عن سابقيه، ألا وهو تآكل العلاقة الأطلسية مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو، في الوقت الذي لم تستطع أوروبا فيه صياغة عقيدة أمنية واستراتيجية مستقلة عن حلف الأطلنطي، ولا تتمتع أوروبا بسياسة دفاعية وأمنية مشتركة حتى الآن وباءت المحاولات القليلة الألمانية الفرنسية في هذا الصدد بالفشل والجمود.
لم يفضل بعض مؤسسي المشروع الأوروبي كالجنرال ديجول كفالة الولايات المتحدة الأمريكية للأمن في القارة الأوروبية، وأنه إذا ما حدث ذلك فلن يكون مؤكدا أو مطلوبا، وهو ما يعني أن الأفضلية في الأمن الأوروبي تتمثل في قدرة القارة على توفير الأمن والدفاع وتعزيز الاستقلال عن الأطلسي والولايات المتحدة الأمريكية.
منذ صعود دونالد ترامب والتجاذبات بينه وبين الحلفاء الأوروبيين مستمرة؛ مرة بسبب فرض فرنسا ضريبة على كبريات الشركات الرقمية والتي غالبيتها أمريكية، وتلويح أمريكا بفرض ضريبة على النبيذ والجبن الفرنسية، أو بسبب التجارة عموما وأخرى بسبب مطالبة ترامب بتحمل الأوروبيين جزءا أكبر من النفقات الدفاعية لحلف الأطلنطي، وقد صرح ترامب ذات مرة "بأن الاتحاد الأوروبي عدو اقتصادي"، وهكذا تقف أوروبا حتى الآن حائرة بين التوجه الأطلنطي والتوجه الأوروبي والاستقلال عن الأطلنطي، فلا هي اندمجت بلا رجعة في الأول ولا هي استطاعت أن تشكل منظورا أمنيا واستراتيجيا ومؤسسيا يعزز استقلالها وتوجهاتها العالمية وقيمها ومبادئها في السياسة الدولية والتي تزعم تمايزها عن المبادئ التي توجه السياسة الأمريكية.
في النهاية يمكن القول إن مستقبل الاتحاد الأوروبي وتحوله من قوة اقتصادية إلى قوة سياسية واستراتيجية في العالم، يرتهن بقدرته على الاستجابة القوية للتحديات المفروضة في المشهد الأوروبي، وترميم التصدعات التي أصابت البناء الأوروبي داخليا وخارجيا، وقدرته على تكييف علاقته الأطلسية بطريقة مرنة أو تشكيل بديل لها، بطريقة تدريجية وبناءة، وتحافظ على القيم والمبادئ الأوروبية واستقلالها وتأثيرها في العالم.
aXA6IDE4LjE5MS4xMjYuMTExIA== جزيرة ام اند امز