انقضى أسبوع كامل على تربع دونالد ترامب على عرش البيت الأبيض، ولا يبدو حتى الآن أن زعيم أكبر قوة في العالم
انقضى أسبوع كامل على تربع دونالد ترامب على عرش البيت الأبيض، ولا يبدو حتى الآن أن زعيم أكبر قوة في العالم، يريد أن يتخلى عن التوجهات الكبرى لسياسته الخارجية التي أفصح عن أبرز ملامحها خلال تصريحاته الإعلامية التي أدلى بها قبل تسلمه مهام الرئاسة بشكل رسمي؛ وعليه فإنه وبالرغم من أن قائمة الضحايا المفترضين لسياسة ترامب الهجومية والشرسة، يتزايدون مع مرور الوقت، إلا أن ترامب بات يمتلك أجندة محددة بالنسبة لسياسة التصعيد والمواجهة التي يريد اتباعها.
وتشير مختلف التحليلات السياسية إلى أنه يريد أن يعيد تنشيط المحور المقدس الذي يربط بلاده بالمملكة المتحدة على الضفة المقابلة من الأطلسي، من أجل مواجهة الاتحاد الأوروبي بزعامة ألمانيا، وبالتالي فإن تدخلات وضغوطات واشنطن سيكون لها أثر حاسم في مساعدة البريطانيين على الحصول على أفضل المزايا الممكنة في مفاوضات «البريكسيت» المرتقبة ما بين لندن وبروكسل، لأن الإدارة الأمريكية الجديدة باتت تسعى بشكل واضح، إلى إضعاف الاتحاد الأوروبي الذي ترى فيه مجرد واجهة مضللة للقوة الألمانية الصاعدة.
ويرى المراقبون بالنسبة للسياق نفسه، أن تصريحات ترامب الأخيرة بشأن الاتحاد الأوروبي أقلقت عواصم القارة العجوز، وكان لها وقع الهزة العنيفة داخل المحور الألماني - الفرنسي الذي بذل وما زال يبذل جهوداً مضنية من أجل تطوير وتفعيل مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وهدفت هذه التصريحات إلى إبراز التشجيع الذي يريد أن يقدمه الرئيس الأمريكي الجديد للدول الأوروبية المستاءة من سياسات بروكسل في مجال الهجرة من أجل حثها على اتباع الخطوة البريطانية الأخيرة؛ وقد بدا ذلك واضحاً عندما عبّر عن استعداد واشنطن من أجل إبرام اتفاق شراكة اقتصادية مع لندن حتى قبل أن تنهي إجراءات خروجها من مؤسسات الاتحاد.
وتسعى الإدارة الأمريكية الجديدة على ما يبدو، إلى إعادة القوة الاقتصادية الضاربة لواشنطن من خلال التخلي عن خطة دعم الاتحاد الأوروبي التي تبنتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ سنة 1950، لأنها باتت ترى أن المصالح الأمريكية تقتضي في المرحلة الراهنة أن تتفاوض مع دول أوروبية منفردة، في سياق تطبيق المقولة التقليدية القائمة على مبدأ «فرّق تسد»، نظراً للتحدي الكبير الذي صارت تشكله التكتلات الاقتصادية المندمجة، على القدرة التنافسية للاقتصاد الأمريكي. ويرى المتابعون لهذا الملف، أن خيارات القادة الأوروبيين باتت جد محدودة في مواجهة سياسة ترامب التصعيدية، فإما أن يكتفوا بالبكاء أو يلجؤوا في أفضل الحالات إلى الاعتماد على نفوذهم في الكونغرس الأمريكي من أجل إعاقة خطط الإدارة الجديدة، وإمّا أن يواصلوا رفع التحدي من خلال تبني مزيد من الوحدة والاندماج على مختلف الصعد، وصولاً إلى اعتماد سياسة خارجية موحدة وآلية لبناء قوة عسكرية مشتركة.
ويمكن القول بناءً على المعطيات الواقعية المتوافرة، إن التحالفات الوثيقة التي تربط دول وسط وشرق أوروبا بالمحور الأمريكي - البريطاني، تثير الكثير من الشكوك فيما يتعلق بقدرة دول الاتحاد على مواجهة الخطط الأمريكية الهادفة إلى إعادة النظر في الكيان الأوروبي الموحد، وبخاصة وأن معظم الدول الأوروبية التي تمتلك حدوداً مشتركة مع روسيا، لا تثق بقدرة أوروبا على ضمان أمنها بمعزل عن القوتين الأمريكية والبريطانية. وبالتالي فإن سعي فرنسا إلى بناء منظومة دفاعية أوروبية مشتركة، يفتقد في أعين الكثيرين إلى المصداقية، ومن غير المستبعد أن تكون تصريحات ترامب الأخيرة بشأن «الناتو» مقدمة من أجل إعادة صياغة العلاقات داخل هذا الحلف بالشكل الذي يجعله متمحوراً حول العلاقات العسكرية الثنائية، التي تضمن للولايات المتحدة الهيمنة المطلقة على القيادة العسكرية للحلف، ويتيح لها بالتالي العمل على صياغة آلية جديدة للتمويل قادرة على تخفيف الأعباء المالية التي ترهق كاهل دافع الضرائب الأمريكي.
من الواضح أن المشهد الأوروبي الراهن يتسم بضبابية كثيفة وبكثير من التعقيد، نتيجة للتحولات الجيوسياسية والجيواستراتيجية المتلاحقة، فالولايات المتحدة وبريطانيا لا ترغبان في رؤية اتحاد أوروبي قوي ومستقل بشكل متزايد عن الهيمنة الأنجلو-أمريكية، وتتوجسان خيفة من أن يتحول الاتحاد إلى أداة طيّعة في خدمة القوة الألمانية؛ كما أن ألمانيا وفرنسا لا ترغبان في فقدان المظلة الأوروبية التي مكنتهما من مواجهة الابتزاز الأمريكي طوال عقود من الزمن. أما الدول الأوروبية الأخرى فيبدو بعضها منشغلاً بالتهديد الذي يمثله زعيم روسيا أكثر من انشغالها بحملة العلاقات العامة التي يقوم بها ترامب عبر وسائل الإعلام؛ ومن ثمة فإن الكثير من الأوروبيين باتوا ينظرون إلى رغبة الإدارة الأمريكية الحالية في تحسين علاقاتها مع روسيا، بكثير من التوجس لأنهم لا يريدون أن تكون القارة محاصرة بين قيصر الشرق وإمبراطور الغرب، ويخشون أن يتحقق التفاهم الأمريكي - الروسي على حساب المصالح الأوروبية، لاسيما دول الكتلة الشرقية السابقة التي تتخوف من الوقوع بين سندان التاريخ الدموي لأوروبا ومطرقة الجغرافيا السياسية الجديدة، التي تسعى الدول الغربية الكبرى إلى إعادة صياغة مفاهيمها وإحداثياتها.
*نقلاً عن "الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة