تقول ألمانيا إنها تعاني من نقص حاد في الأيدي العاملة، وإن لديها عدداً من الوظائف الشاغرة يبلغ نحو مليوني عامل.
وهذا عدد أكبر بكثير من كل الذين حاولوا عبور البحر إلى أوروبا منذ العام 2017!.
فهل لاحظت المفارقة؟
لا يجب أن يفاجأ أحد بأن صانع القرار في أوروبا يتخذ قراراته حيال أزمة تدفق المهاجرين انطلاقا من دوافع عنصرية أو أيديولوجية أو انتهازية لإرضاء ناخبين.
والأزمة تتفاقم، حتى لتبدو بعض البلدان الأوروبية وكأنها تخوض حربا ضد الذين تحتاجهم بالذات.
هناك وجه من التاريخ يقول إن قوارب المغامرين الأوروبيين كانت تذهب إلى سواحل أفريقيا من أجل أن تصطاد البشر، وتقودهم بالسلاسل إلى العمل كعبيد في المزارع، أو تبيعهم لتجار في الولايات المتحدة.
حاجة أوروبا والولايات المتحدة إلى عمال جدد لم تتغير. بل إنها زادت في الواقع. ولكن موقفها من المهاجرين هو الذي تغيّر. صار موقفا عدائيا لأسباب لا علاقة لها بمقدار الحاجة إلى عمال. كما صار موقفا ذا طبيعة استعلائية أيضا. ذلك أن من كانوا يُعاملون كعبيد، ظلت النظرة حيالهم هي أنهم عبيد، ويجوز أن تغرق سفنهم في البحر، وكأنهم من فائض البشر.
أوروبا تشيخ، وليس ألمانيا وحدها. وهناك قطاعات مثل الضيافة والصحة والبناء تواجه نقصا في العمالة متوسطة المهارة، وغير الماهرة، ما يؤثر على استقرار أنظمة الخدمات. ولكن قوارب المهاجرين التي تحمل حلولا افتراضية تُحارب كما لو أنها وباء.
بعض الأسباب مفهوم. وهو أن أحدا لا يريد أن يُقتحم عليه داره عنوة. ولكن بعضها الآخر يتعلق بسوء التدبير. فالبلدان ليست دورا تُقتحم. إنها السعة، ولو ضاقت الأرض.
تغيير النظرة إلى المهاجرين يمكنه أن يساعد في تدبر الحلول. فهم "عمال" في النهاية. يبحثون عن الأمن والاستقرار وربما بعض الرفاهية، وهم قوة عمل قابلة لإعادة التنظيم والتأهيل وسد الاحتياجات.
وبمقدار ما يتعلق الأمر بأوروبا، التي تحاول إيجاد سبل لتقاسم الأعباء، فإن تلك الأيدي العاملة قابلة "للتبادل" أيضا. هذا جزء من إعادة التنظيم.
وتنفق الدول الأوروبية المليارات على حراسة شواطئها، كما تنفق مليارات أخرى لأجل تعزيز الحراسة على الشواطئ المقابلة.
هذا هو السبيل السائد في التعامل مع ظاهرة الهجرة غير الشرعية. ويأتي من بعده التنازع حول كيف يتم توزيع المهاجرين أو "دراسة حالاتهم"، والفصل بين مَنْ يمكن أن يبقى وبين مَنْ يُعاد ترحيله.
وهو مما يجعل الأزمة تغرق في حال من الفوضى الإدارية والصداع السياسي والانفعالات الإنسانية، لاسيما عندما تترافق مع فشل يؤدي إلى تعرض المهاجرين إلى انتهاكات، أو عندما تغرق سفنهم، أو حتى عندما يتم إغراقها عمدا أو بالإهمال.
هناك حلقة مفقودة في هذه الفوضى، عنوانها "التنظيم وإعادة التأهيل".
الاعتراف بأن هناك حاجة إلى أيد عاملة، والاعتراف بحقيقة أن الهجرة ظاهرة إنسانية وتاريخية لن يمكن وقفها بالقوة، وتوفير المعرفة للمهاجرين بأن هناك وسائل أخرى للهجرة المنظمة، يمكن أن تشكل منعطفا جذريا في معالجة هذه الأزمة.
إن إنشاء مراكز لإعادة التأهيل والتنظيم، سواء على هذا الشاطئ أو ذاك، ستكفل إرساء قاعدة جديدة، مختلفة المعايير تماما، لمعالجة ظاهرة الهجرة غير المشروعة.
بعض التبسيط ضروري لملاحظة بؤس المفارقة. على سبيل المثال، هناك عشرات الآلاف من مهاجري القوارب يتكدسون في بريطانيا ينتظرون معالجة قضاياهم. الكثير منهم يوضعون في فنادق رثة، ليكونوا أقرب إلى السجناء فيها. بينما هناك عدة جزر ذات قيمة سياحية تتحول إلى جزر مهجورة وتفتقر إلى من يعملون على إعادة إحيائها. هذه الجزر نفسها يمكن أن تكون مركزا للتأهيل والتنظيم.
قد لا يمكن لمركز تنظيمي على الشاطئ الجنوبي للمتوسط أن يتكفل بتعليم المهاجرين المحتملين كل أنماط المهارات المطلوبة. إلا أن تمويل معاهد ومراكز تدريب لاستقبال مهاجرين محتملين، أمر معقول تماما، ويضرب عصفورين بحجر، لجهة دعم تلك المعاهد والمراكز، ولجهة مساعدة المهاجرين على إعادة تأهيل أنفسهم بما يتناسب مع احتياجات جهات الاستقبال.
بل وقد يمكن أيضا تقديم مساعدات رمزية للذين يواظبون على التدريب، بما في ذلك، تعلم اللغة.
بعض مراكز الأعمال في ألمانيا يُعدّ قوائم باحتياجاته من العمالة. ويبدو أن السفارات الألمانية في عدد من دول العالم تبذل جهدا لاستقطاب المهارات المطلوبة.
وهناك معايير تنظيمية وتسهيلات تم إقرارها مؤخرا لتيسير استقبال المهارات العالية والمتوسطة، بل وحتى المتدنية. ولم تعد اللغة الألمانية شرطا مسبقا، بل مجرد عامل بين عدة عوامل أخرى لقبول الهجرة، وكذلك الحال بالنسبة للمهارات دون شهادات جامعية، أو المهارات بشهادات غير معترف بها.
هذه خطوة في المسار الصحيح. ولكن ما الذي لا يزال ينقص هذا المسار؟
إنشاء مراكز "استقبال" تمهيدية على الشاطئ الآخر، تتكفل بدراسة الملفات، وتنظر في قوائم الاحتياجات، وتساعد في تطوير المؤهلات من خلال مراكز تدريب مهنية محلية، سوف ينقل أزمة الهجرة غير الشرعية من بيئة الفوضى الراهنة إلى التنظيم للمرة الأولى منذ انفجار الموجة في العام 2014 إلى اليوم.
شيئا فشيئا، لن تعود قوارب الفوضى، ولا محاربتها كالوباء، هي القضية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة