ظلت عيون الأوروبيين وأفئدتُهم مُعلَّقةً بمجريات النزاع الروسي-الأوكراني وتلفحهم هواجس القلق من اتجاهين.
الاتجاه الأول، من الأعباء التي يراكمها النزاع على الصُّعُد الأمنية والاقتصادية على دولهم والمستقبل المجهول الذي يخشونه إذا ما بقي النزاع مستعرًا، وما قد يحمله من مخاطر عليهم حال توسّعه.
والاتجاه الثاني نابع من احتياجاتهم الذاتية للغاز الروسي والسلع والقمح ومشتقاتها جميعًا وهم على أبواب شتاءاتهم القاسية، التي لا يداويها سوى الدفء المنبعث من أنابيب الغاز الروسي المتغلغلة في جدران منازلهم ومعاملهم ومؤسساتهم وأماكن ترفيههم.
الأوروبيون يعرفون قوانين الطبيعة المتقلبة، وتعاملوا مع كثير من ظواهرها، فتمكنوا من تطويع معظمها بعقول خلاقة ومبدعة، ومع ذلك ظلت تحمل في ثناياها مُرتجعات عكسية حوّلت بعض مباهج الطبيعة وثمارها إلى تعقيدات لا تلبث أن تُثقل كاهل الإنسان وترتد عليه.
بتوافق الأوروبيين أنفسهم، فإن كثيرًا من الانبعاثات المسببة للتغير المناخي مصدرها الجزء الشمالي من الكرة الأرضية، نتيجة تنوع الصناعات وغزارتها بجميع مكوناتها وخصائصها الكيميائية.
ها هي الطبيعة اليوم تأخذ أوروبا إلى مُنازَلة كبرى لا تدري كيف تُنهيها ولا تقوى على الإفلات من لكماتها، ولا تستطيع إخفاء نُدَبِها. التحدي الذي يفرضه النزاع المتفجر بين روسيا وأوكرانيا قد يبدو أقل اضطهادًا للأوروبيين إذا ما قورن بغضب الطبيعة العارم، الذي يزمجر على أبواب القارة برمتها، جفاف بعض الأنهار وما يعنيه، وارتفاع درجات حرارة غير مسبوق وما يستتبعه، وحرائق متنقلة في غاباتها وأحزمتها الخضراء.
للوهلة الأولى تبدو مسألة ارتفاع الحرارة واشتعال الحرائق وتراجع منسوب الكثير من أنهار أوروبا أمرًا طارئًا وعرضيًّا غيرَ ذي قيمة في دولٍ توصَف حياة ناسها بالرفاه، وتتمتع حكوماتها بالاستقرار، وتتميز قوانينها بالعدالة، وتُعرف دساتيرها بالصرامة، وحقوق المواطن فيها مصونة، وتتربع غالبيتها على عروش اقتصادية وأصول راسخة لا تهتز بمجرد هبوب رياح السموم الحارة من الشرق، ولا تضطرب بأعاصير عاتية من الغرب.
يعتبر شهر يوليو/تموز 2022 ثاني أكثر الشهور جفافًا على الإطلاق في فرنسا منذ شهر مارس/آذار عام 1961 وفق ما أفادت خدمة الأرصاد الجوية الفرنسية، أما في بريطانيا فيعتبر الشهر ذاته الأكثر جفافًا في جنوب البلاد على الإطلاق منذ عام 1935.
إسبانيا عانت ارتفاعاتٍ قياسية في درجات الحرارة تفوق الأربعين درجة. تقرير رسمي أصدرته مفوضية الاتحاد الأوروبي أكد أن نحو 46% من أراضي الاتحاد الأوروبي وصلت إلى مستوى التحذير من حدوث جفاف، بينما هناك 11% من المناطق التي شملها الاستطلاع في حالة تأهب قصوى بسبب قلة الأمطار وموجات الحر المبكرة، التي حدثت في شهري مايو/أيار ويونيو/حزيران الماضيين وأثّرت بشكل مباشر على إنتاج المحاصيل الزراعية في فرنسا ورومانيا وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا التي صنّفها التقرير ضمن خانة الأكثر تضررًا بسبب جفاف نهر "بو" شمال البلاد بنسبة عالية جدًّا.
نهر "الراين" وحده نموذج لرسم ملامح المُنازلة المشرعة اليوم بين الطبيعة والقارة القديمة.
فماذا يعني تراجع منسوب المياه في نهر "الراين" على فرنسا وعلى دول أوروبية عديدة؟
يعد "الراين" أحد أعظم أنهار أوروبا.. يربط عدة دول ساحلية مع بحر الشمال والمحيط الأطلسي.. يمتد النهر الذي يبلغ طوله 1288 كيلومترًا من سويسرا إلى بحر الشمال، شمال أوروبا، بين النرويج والدنمارك.. يُستخدم لنقل عشرات ملايين الأطنان من السلع داخل القارة.. مياهه اليوم عند أدنى مستوى منذ خمسة عشر عامًا، بحسب الدراسات الأوروبية التي تؤكد أن ضحالة النهر أدت إلى تراجع الملاحة فيه وتقليل كمية البضائع المنقولة.. فسفينةٌ بسعة 2500 طن لم تعد قادرة على حمل سوى 1600 طن فقط على متنها، وهو ما نبّهت إليه وكالة "بلومبيرج"، التي أكدت أن تدفق السلع إلى دول أوروبا الداخلية غير الساحلية بدأ في الانخفاض مع استمرار انخفاض مستويات المياه على نهر الراين.
أطلّ الجفاف برأسه، بينما كانت شركات الطاقة الألمانية تستعد لفصل الشتاء المقبل.
تستورد ألمانيا أيضًا المنتجات النفطية عبر نهر "الراين"، بما في ذلك الوقود ومشتقات التدفئة.. سوق الفحم الضيّقة وانخفاض مستويات النهر يسهمان في مشكلة عمليات توصيل الوقود، حيث ستتوفر نسبة 65% فقط من طاقة الفحم الألمانية في الأشهر المقبلة.
أوروبا تنافح أسوأ أزمة طاقة لها خلال عقود، جراء النزاع الروسي الأوكراني.. الارتباط وثيق بين الارتفاع غير المسبوق للحرارة، الذي تشهده القارة، وبين ارتفاع استهلاك الكهرباء والطاقة.
سويسرا، الدولة الأوروبية غير الساحلية، تجتهد لتأمين إمدادات المنتجات النفطية عبر ألمانيا، ديزل ووقود تدفئة، لكنها تواجه مشكلة لم تكن في الحسبان، وهي مشكلة السعة الاستيعابية للسكك الحديدية الألمانية التي تتولى إمدادها.
أحد الإجراءات العملية غير المعتادة لإدارة المياه والطاقة في الدول المتضررة أعلنتها شركة "ساذرن ووتر" البريطانية لتوزيع المياه في المملكة المتحدة، فقد حظرت ريّ الحدائق وغسل السيارات وملء أحواض السباحة الخاصة في هامبشاير وجزيرة وايت، وهي منطقة شاسعة تقع جنوب غرب لندن وتمتد إلى سواحل المانش.
قالت العربُ: رأيتُه يتملْملُ كأنما يتقلبُ على الرَّمْضاء.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة