أوروبا كلها، وليس فقط فرنسا، تواجه إعصارا حقيقيا من الداخل بفعل المتغيرات الداخلية التي تجري في دول القارة.
تواجه أوروبا كلها، وليس فقط فرنسا، إعصارا حقيقيا من الداخل بفعل المتغيرات الداخلية التي تجري في دول القارة، ولا علاقة له بنظرية المؤامرة التي يتحدث عنها البعض انطلاقا من أن بعض القوى الدولية الأخرى في العالم تسعى لإسقاط أوروبا في مساحة من التردي والذهاب إلى حافة الهاوية، وهو أمر يحتاج إلى قراءة أخرى في مسار ما يجري ليس في فرنسا فقط وإنما أيضا في سائر دول الإقليم الأوروبي الأخرى.
أولا: من الواضح أن الموقف الداخلي في فرنسا سيكون حاكما للتغيير القادم في أوروبا، وبصرف النظر عما ينتهي إليه خاصة وأن السياسات المالية والاقتصادية للرئيس الفرنس ماكرون ستحتاج في كل الأحوال إلى مراجعة وهو ما تم بقرارات رئاسية مباشرة بصرف النظر عن البدء في حوار وطني يضم كل القوى السياسية الفرنسية وأرباب الأعمال وليس فقط إلغاء قرار رفع الوقود باعتباره ليس هو الحل بالنسبة للحالة الفرنسية إذ إن سقف المطالب الفرنسية انفتح على عديد من المشاهد في فرنسا خاصة وأن تغيير رئيس الوزراء وارد ومراجعة السياسات المالية محتمل في ظل نصائح الاقتصاديين الأوروبيين للرئيس الفرنسي والذي لم يجادل في التوصل لنقطة توازن بين مطالب المحتجين من جانب والمضي قدما في تنفيذ السياسات الاقتصادية من جانب آخر، خاصة وأن الرئيس الشاب القادم من خارج الإطار الحزبي وبرؤية جديدة لا بد أن يسمع وينصت ويعمل ويعترف بتحمل جزء من المسؤولية، وهو ما سيقوم به خاصة وأن المسألة ليست في الوصول للتهدئة في الشارع وعودة المتظاهرين لعملهم، ففرنسا تمر بمرحلة حساسة من تاريخها السياسي والاقتصادي فهي بالأساس من ستقود قاطرة الاتحاد الأوروبي، ولا يوجد ما يدفع إلى إدخال فرنسا في متاهة سياسية جديدة تدرك القوى الدولية أنها لا شك سيكون لها تداعيات على أمنها هي الأخرى.
أوروبا في كل المشاهد المتوقعة أمام إعصار حقيقي قادم حيث سينفتح المشهد على كافة الاحتمالات التي لن تقتصر على دول مثل فرنسا، وألمانيا بل ستمتد إلى دول أخرى مع تجاوز خيارات التغيير، أو المطالبة بوقف بعض الإجراءات الاقتصادية أو اتباع سياسات محددة
ثانيا: الإشكالية الحقيقية فرنسا أم أوروبا ومن سيكون التالي في حالة عدم الاستقرار خاصة وأن دولا أخرى بدأت تشهد حالة من التظاهرات، كما جرى في بلجيكا وإيطاليا وهولندا وغيرها وهو ما يؤكد على أن نظرية الدومينو التي ستدفع بدول أخرى في أوروبا للدخول في مواجهات داخلية، خاصة وأن الرأي العام الأوروبي سوف يتأثر لا محالة وسوف يخرج يطالب بالمزيد من الرفاهة وتوقف الدعم وعدم تحمل نتائج الإصلاح في السياسات الاقتصادية التي تقوم بها بعض الدول الأوروبية في هذا التوقيت ولم تعد تقتصر على فرنسا أو إيطاليا أو بلجيكا، بل يمتد أيضا إلى إسبانيا والبرتغال، ومن ثم فإن ما يجري في فرنسا جزء مما سيجري بعد قليل وبصرف النظر عن التوقيت في بلدان أوروبية أخرى والأمر متعلق بالأساس بالداخل الأوروبي وبالسياسات الاقتصادية وإصلاح وتنمية القطاعات الاقتصادية الداخلية، خاصة وأن أوروبا على موعد حقيقي مع التغيير الذي سيجري في الفترة المقبلة بعد الخروج البريطاني المهين، والذي تم في 38 دقيقة في جلسة التصويت، وبالتالي فإن أوروبا قبل الخروج البريطاني ستكون مختلفة في الفترة المقبلة، وفي ظل تغييرات حقيقية ستشمل الدول الرئيسية في الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسها فرنسا وألمانيا تحديدا.
ثالثا: من المبكر التأكيد على أن الاتحاد الأوروبي سيظل ينظر لما يجري في دوله وعلى وجه الأخص فرنسا بهذه الصورة، خاصة وأن تدخل الاتحاد لن يكون بالأساس لدعم فرنسا أو تأييد السياسات الاقتصادية للرئيس ماكرون، فهذا الأمر مرتبط بالداخل الفرنسي وليس متوقعا أن تقدم مؤسسات الاتحاد الأوروبي للعمل مع الرئيس الفرنسي بل بالعكس ستنتظر ما سيجري إذ من الواضح أن ألمانيا تقود موقفا محايدا تجاه ما يجري في فرنسا باستثناء بيانات وتصريحات الدعم المعنوي، وهو ما يشير إلى ثمة مواقف مترددة وأخرى غير واضحة للتعامل مع ما يجري في فرنسا، ومن المحتمل أن يمتد إلى دول أخرى، وبالتالي فإن الاتحاد الأوروبي كدول ومؤسسات وهياكل مشتركة يواجه مأزقا حقيقيا وخطيرا مرتبطا بالاستمرار أو عدم الاستمرار الحقيقي في أداء دوره، برغم كل ما يقال عن أوروبا الموحدة والسياسات المتوافق بشأنها بين الدول الكبيرة في الاتحاد الأوروبي، ومن المفترض أن تعمل لصالح خيارات البقاء لمواجهة ما يعتري السياسات الدولية من تحديات ومخاطر، خاصة وأن الأولويات الرئيسية كما اتضحت بارتباط بقاء الدول والحكومات الأوروبية كل على حدة وليس الاتحاد الأوروبي كمؤسسات مشتركة، ومن ثم فإن فرنسا وألمانيا سيعملان إما على إعادة ترتيب السياسات الأوروبية انطلاقا من الداخل، وإما الاستمرار في إدارة المشهد الداخلي من خلال تنفيذ السياسات الانفرادية، والتي كلفت فرنسا كحكومة ورئيس ما جرى في شوارع فرنسا ولا أحد يتوقع أن تكون سيناريوهاته ليس في فرنسا فحسب، وإنما في باقي الدول الأوروبية الأخرى التي ستشهد حالة من عدم الاستقرار نتاج ما سيجري في أوروبا من تحولات حقيقية، وربما أدت لمزيد من المشاهد الأوروبية غير المتوقعة.
رابعا: هل سيكون من المتوقع في مثل هذه الأجواء الأوروبية غير المستقرة أن تسعى دول أخرى للخروج من الاتحاد الأوروبي والعمل على الخروج من الاتحاد وتركه في ظل حالة الضغوطات الراهنة داخل بعض الدول الأوروبية، ولا علاقة لها فقط بالسياسات المالية والاقتصادية وأسعار الطاقة، والضرائب المتراكمة وهو ما كانت الشرارة الأولي لما جرى في فرنسا، وبالتالي فإن الخطورة الحقيقية تتمثل في عدم التعامل الأوروبي الجاد مع السياسات، والبدائل الحالية والتي قد تذكي من تبعاتها دولا مثل روسيا والولايات المتحدة، والتي تسعى أيضا للدخول على الخط انطلاقا من حسابات سياسية واستراتيجية واقتصادية مهمة تسعى لتصدير أزمة حقيقية للاتحاد الأوروبي ككل وليس لفرنسا فقط، وهو ما تدرك تبعاته فرنسا وألمانيا تحديدا خاصة وأن الولايات المتحدة تعمل بالفعل على تقويض مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وإفشاله ورفع شعار أمريكا أولا وعلى الاتحاد الأوروبي أن يدفع ثمن تحالفه مع الولايات المتحدة إضافة للعمل على تقويض مؤسسات الناتو، وإعادة ترتيب أولوياته ومهامه ودوره المقبل، وإلا فإن الولايات المتحدة سترفع يدها عن الناتو، وتتركه لأوروبا خاصة وأن الولايات المتحدة تريد أن تنقل رسالة مع الرئيس ترامب أنه لن يكون هناك تعاون أو تحالف بدون ثمن سياسي واستراتيجي وفي ظل مكاسب حقيقية تعمل الإدارة الأمريكية للوصول إليها، واستثمار ما يجري في الاتحاد الأوروبي في الوقت الراهن، ومن ثم فإن البدائل والسيناريوهات المطروحة في الاتحاد الأوربي لن تكون كثيرة بل ستضيق، خاصة في حال الاستمرار في حالة عدم الاستقرار داخل بعض الدول الأوروبية.
خامسا: ستظل إذن الأوضاع في فرنسا وسائر الدول الأوروبية المرشحة لحالة من عدم الاستقرار في محك اختبار حقيقي، خاصة وأن التوقع بأن الأولوية لفرض الاستقرار داخل الدول الكبرى في أوروبا مثل فرنسا هي الأهم على أي اعتبار آخر خاصة وأن فرنسا لا تمثل نفسها فقط بل تمثل الاتحاد الأوروبي بأكمله، ومن ثم فإن استمرار حالة عدم الاستقرار سيدفع إلى هز الاستقرار في الاتحاد الأوروبي، وسيدفع للرأي العام الأوروبي في دول أخرى للبحث عن البديل، والعمل من منطلقات داخلية أوروبية بالأساس، وليس من خلال اتحاد كان يجب أن يقوم بدور حقيقي في التعامل مع المشهد الفرنسي، ومع ذلك استمر يراقب ويتابع دون أن يتدخل ولو من خلال سياسات رمزية، وهو ما سيدفع فرنسا أيضا لمراجعة بعض السياسات الأوروبية في هذا السياق خاصة تجاه ألمانيا وإيطاليا، وفي ظل ما قد يدفع بالأساس لمطالبة بعض الأحزاب الأوروبية في دول أخرى للمطالبة بالخروج من الاتحاد على اعتبار أن البقاء فيه بات مكلفا، ولا داعي للاستمرار في اتحاد تجاوزه الوقت وتشبها بالحالة البريطانية مع الفارق خاصة، وأن ما تحقق في مشوار الإنجاز للاتحاد الأوروبي كان كبيرا ومميزا وأفاد دول الاتحاد في مراحل عديدة بما فيها بريطانيا ذاتها.
والسؤال المطروح هل يمكن التوقع بمرحلة جديدة للاتحاد الأوروبي، أم أننا سنشهد تحولات حقيقية هيكلية قد تؤدي إلى مراجعات أوروبية كاملة؟ الواقع الأوروبي بصرف النظر عما يجري في دوله يشير إلي ثلاثة سيناريوهات؛ الأول: الاستمرار في حالة عدم الاستقرار بصرف النظر عن توقف التظاهرات الفرنسية أو غيرها من دول أوروبية، وهو ما سيؤدي إلى إعادة النظر في مهام الاتحاد ودوره جنبا إلى جنب مراجعة السياسات الاقتصادية داخل دول القارة، وهو ما سينطبق على دول أخرى في الاتحاد الأوروبي ومنها إيطاليا وبلجيكا وغيرها الثاني: التهدئة الحذرة التي قد تشهدها دول الاتحاد الأوروبي مع حدوث انشقاقات في المواقف الواحدة في الاتحاد الأوروبي انطلاقا مما سينتهي إليه الوضع في فرنسا خاصة وأن كل التطورات المحتملة لن تصب في صالح سياسات الاتحاد الراهنة، والتي تواجه بالفعل بتحديات حقيقية من الخارج، وأخطرها ما تسعى الولايات المتحدة لتصديره لمؤسسات الاتحاد الأوروبي، والعمل على إفشالها وإظهارها في إطار العاجزة عن اتخاذ أو تبني سياسات حقيقية مفيدة لدول الاتحاد، ويبقى السيناريو الأخير مرتبطا بالأساس باستمرار مناخ عدم الاستقرار السياسي في الأجواء الأوروبية ودخول دول مثل ألمانيا على خط إعادة تصويب مسار الاتحاد على كافة المستويات، ما سينمي من حالة التماسك البنيوي داخل الاتحاد، والقفز على الوضع الراهن بكل تحولاته السلبية التي تواجهها دول الاتحاد الأوروبي.
أوروبا في كل المشاهد المتوقعة أمام إعصار حقيقي قادم، حيث سينفتح المشهد على كافة الاحتمالات التي لن تقتصر على دول مثل فرنسا وألمانيا بل ستمتد إلى دول أخرى مع تجاوز خيارات التغيير، أو المطالبة بوقف بعض الإجراءات الاقتصادية أو اتباع سياسات محددة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة