الحلف من المبادرات العظيمة التي تتبناها الإمارات، وتمد من خلالها يديها للعالم أجمع بالسلام والوئام والتعايش ودعوات نصرة المستضعفين.
في عاصمتها الفكرية والسياسية استضافت الإمارات الأسبوع المنصرم، حدثا دوليا على قدر كبير من الأهمية جمع أكثر من 800 من أبرز رجال الدين وقادة الفكر من مختلف الديانات والجنسيات، حدثا يعكس بوضوح ما وصلت إليه دولة الإمارات من مكانة وما تبوأته من موقع أصبح يشار إليه بالبنان، باعتبارها أكبر حاضنة لقيم التسامح والسلم ونبذ العنف واحترام التعددية الثقافية والتعايش المشترك.
الحدث كان في أبوظبي، وتمثل في فعاليات الملتقى الخامس لمنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، والذي جاء تحت شعار "حلف الفضول - فرصة للسلم العالمي"، الرسالة الأولى لهذا الملتقى تمثلت في ضرورة استلهام التراث الإنساني الذي يؤسس لقيم التعاون والتعاضد والعيش المشترك، وهذا ما كان جليا في شعار الملتقى وعنوان جلسته الأولى "نحو حلف فضول جديد"، في محاولة جديرة بالاحترام لاستحضار وإعادة إنتاج تجربة تاريخية ملهمة كانت إحدى النقاط المضيئة في التاريخ العربي، ففي دار عبدالله بن جدعان، وبين عامي 590-595م، شهدت مدينة مكة حدثا مهما تجسد في تكوين "حلف الفضول"، الذي كان بمثابة معاهدة لنبذ العنف والظلم وتحقيق المساواة التي تعد من أسس الدولة المدنية الحديثة، لذا سعى الملتقى من خلال محاولة إحياء قيم هذا الحلف إلى إنشاء نظام عادل لحماية الأمن والسلام العالمي المشترك، عبر نسج صورة زاهية للتعايش بين الأديان والثقافات والحضارات المختلفة.
استضافة أبوظبي لهذا الحدث تثبت أنها أصبحت عاصمة عالمية للسلام والتسامح تلتقي فيها حضارات الشرق والغرب وتتعانق فيها جميع الديانات، بهدف إعلاء قيمة الإنسانية وفضيلة العيش المشترك وتعزيز السلم بين الشعوب كافة
وقد ركزت جلسات المتلقى على ضرورة تعظيم القواسم المشتركة الكثيرة بين الديانات والثقافات والحضارات المختلفة، مقابل تحجيم السياسات المرتكزة على الهوية والعرق والطائفة والتي يمثل نبذها فكرة مركزية في الإسلام الذي دعا إلى إعلاء الشرائع الإلهية على العصبيات القبلية والعرقية الضيقة، لذا يسعى منتدى تعزيز السلم إلى جعل حلف الفضول رسالة للإنسانية هدفها نشر قيم التسامح والسلام والتآخي والعيش المشترك بغض النظر عن الانتماء الديني أو العرقي، ليس فقط من خلال إحياء التراث والاحتفاء به، ولكن الأهم من خلال استلهامه وإعادة طرحه واستحضار دروسه بما يوائم الحاضر وتحدياته ومشاكله.
إن الفكرة الناظمة لهذا الحلف تتمثل في تعزيز الهوية الإنسانية كهوية جامعة بدلا من الهويات الدينية والعرقية والطائفية المفرقة، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف السامي ورغبة في تأصيل قيمة السلم وثقافة التعارف الكامنة في روح الإسلام، أطلق منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة قبل ثلاثة أعوام "جائزة الإمام الحسن بن علي للسلم الدولية" برعاية الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي الإماراتي.
لم تخلُ جلسات الملتقى من صراحة مطلوبة في النقاش، ومن جرأة في الطرح قد تكون مفتاحا ضروريا للحل وطريقا وحيدا إليه، لا سيما في القضايا الشائكة التي لا يجدي معا نفعا منطق دفن الرؤوس في الرمال، وتجاهل جذور المشكلة والاكتفاء بالتعامل مع فروعها وتجلياتها وتداعياتها، فالمسكوت عنه يبقى دائما هو اللغم القابل للانفجار في أي وقت.
لعل هذا ما تجلى تحديدا في كلمة الدكتور علي النعيمي حول "المسلمون والمواطنة" الذي أكد فيها أن الطريق لحل المشكلة يبدأ بالاعتراف بوجودها أولا؛ لذا طالب بضرورة الإقرار والاعتراف أولا أن لدينا مشكلة؛ لأن ذلك سوف يساعدنا في إيجاد الحل، وهذا ما طبقه في عرضه لمفهوم الدولة حين أكد أن هناك من يخلط بين الدولة الوطنية الحديثة التي أصبحت واقعا وحقيقة، وبين مفهوم دولة الخلافة التي كانت تنتمي لعصرها وزمانها الذي ولى بلا رجعة، ونشأت وفقا لمقتضيات لم تعد موجودة حاليا ولا مجال لعودتها مستقبلا؛ لذا أثار الدكتور النعيمي في كلمته "سؤال الهوية"، مطالبا بضرورة تحديد الهوية التي ننتمي إليها، فلا مجال للحديث عن ترسيخ قيم المواطنة الحقة وقيم الاعتراف بالآخر المختلف قبل الإجابة عن سؤال "من نحن؟"، لذلك سيظل سؤال الهوية يشكل مطلبا رئيسيا للثقافة العربية المعاصرة في رهانها على الالتحاق بركب التنمية الحضارية.
وباعتبار أن الهويات تبقى دائما مرجعا للأفكار والأحكام والمعتقدات، كان الدكتور علي النعيمي محقًّا حين حذر من أثر الأفكار الكبرى وتأثيرها على العامة إذا تلقوها على عواهنها، دون وسيط أمين ومستنير يشرح مقاصدها ويبين مبتغاها ويقطع الطريق على من يحاول تأويلها؛ لذا أبرز أهمية دور المثقفين وقادة الفكر في هذا الصدد بقوله: "إنه يتعين علينا كمفكرين ورواد أفكار وقادة في المجتمع أن نناقش ونطرح قضايانا بالمؤتمرات فيما بيننا، ثم ننقلها إلى الكنائس والمساجد والمعابد؛ كي تكون مشروعاً فاعلا في حياتنا؛ لأن العامة قد لا يدركون مرمى الأفكار الكبيرة على وجه الدقة.
من الكلمات المهمة والملهمة أيضا في هذا الملتقى كانت كلمة الشيخ عبدالله بن بيه رئيس المنتدى، الذي دعا فيها إلى وضع خارطة طريق لتحقيق الأهداف المرجوة من حلف الفضول الجديد، ورأى أن السلم يقع في مقدمة هذه الأهداف لما يمثله من غاية في ذاته، ووسيلة للوصول إلى الأهداف الأخرى، وأبرزها صناعة جبهة من رجال الدين تدعو للسلام وترفض استغلال الدين في النزاعات والحروب، وتعمل على إعادة التوازن في نطاق كل ديانة، لبناء الجسور بينها على أسس صلبة ودعائم قوية، قابلة للاستمرار والاستقرار.
العلامة الكبير اختتم حديثه بكلمات بليغة تعبر بصدق عن واقع نعيشه ومستقبل نتطلع إليه، كلمات: "نحن لا نحمل سلاحا بل نحمل سلاما وكلاما، نحن إطفائيون بالحكمة والكلمة الطيبة، وإن الحرب لا غالب فيها، بل الكل مغلوب".
وفي رغبة لإضفاء نوع من المؤسسية على الحلف الجديد وضمان ديمومته، أوصى المجتمعون بإنشاء لجنة لإعداد ميثاق للحلف، على أن تقترح النصوص التنظيمية المتعلقة بتكوينه طبقاً لقوانين دولة المقر، كما أوصى رواد حلف الفضول الجديد بضرورة ترسيخ وتطوير نموذج لقوافل السلام ليصبح آلية للتعاون والتعايش، وتقليدا يتم العمل على تعميمه والاستفادة منه، كما أوصت القيادات الدينية المشاركة بالملتقى بالعمل على إشراك جميع العناصر الفعالة في المجتمع، وخاصة فئتي النساء والشباب لما لهما من تأثير كبير على نجاح هذا النوع من المبادرات.
استضافة أبوظبي لهذا الحدث تثبت أنها أصبحت عاصمة عالمية للسلام والتسامح، تلتقي فيها حضارات الشرق والغرب وتتعانق فيها جميع الديانات، بهدف إعلاء قيمة الإنسانية وفضيلة العيش المشترك، وتعزيز السلم بين الشعوب كافة، وتنظيم "منتدى تعزيز السلم" لهذه الفعالية يعطي دليلا جديدا على المكانة التي أصبح يتبوأها والدور المحوري الذي صار يلعبه في تعزيز قيم التسامح والتقريب بين الشعوب وترسيخ ثقافة الحوار بين الثقافات والديانات والحضارات المختلفة، و"حلف الفضول الجديد" مبادرة من بين مبادرات عظيمة تتبناها الإمارات، وتمد من خلالها يديها للعالم أجمع بالسلام والوئام والتعايش ودعوات نصرة المستضعفين ودرء الظلم عن المظلومين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة