معاداة الإسلام والهجرة تتحول إلى تيار سائد في أوروبا، لتكون هي الحفلة التي يرقص اليمين الأوروبي على أنغامها.
ولكن، ليس لأن الإسلام والهجرة يشكلان خطرا حقيقيا، بل لأنهما أداة لذرّ الرماد في العيون.
الأزمات الاقتصادية، التي لا تجد حلا، سرعان ما تنحرف عنها الأنظار لتتركز على الإسلام بوصفه "خطرا ثقافيا"، وعلى الهجرة بوصفها "تهديدا معيشيا للفقراء". وكلتا الذريعتين مجرد كذبة لا تتوافق مع الحقائق.
يبلغ عدد سكان دول الاتحاد الأوروبي نحو 450 مليون نسمة، بينهم نحو 22 مليون مسلم فقط، أو ما يعادل 4.8 بالمئة من مجموع السكان.. وهذه نسبة ضئيلة لا توازي ما يثار حولها من مخاوف.
الاعتقاد الذي تشيعه مارين لوبان، زعيمة "التجمع الوطني" الفرنسي، على سبيل المثال، يقول بأن المجتمع الفرنسي يواجه "طوفانا من الأسلمة".
ولكن، حتى ولو كانت نسبة المسلمين في هذا البلد هي أعلى من أي بلد أوروبي آخر، فإنها لا تزيد على 8.8 بالمئة من مجموع السكان. ولهذه النسبة سبب يتعلق باحتلال فرنسا الجزائر. وهو أمر لا يحب اليمين الفرنسي أن يشير إليه. بمعنى أن المسلمين لم يهبطوا على فرنسا من كوكب آخر.
لقد جاءت بهم جيوش فرنسا كجزء من ميراثها الاستعماري. وهي نسبة لا تشكل تهديدا، حتى ولو كان الـ91.2 بالمئة من الفرنسيين مصابين بانعدام شامل للثقة بالنفس.
ولكن الذريعة كانت كافية لكي تحصد "لوبان" 41 بالمئة من أصوات الناخبين في الانتخابات الرئاسية الفرنسية في أبريل الماضي، وأصبح حزبها ثالث أكبر حزب في فرنسا، في الانتخابات البرلمانية التي جرت في يونيو الماضي، بعد حزب النهضة الحاكم بقيادة الرئيس إيمانويل ماكرون، وتحالف اليسار بقيادة جان لوك ميلانشون.
الهجرة ذريعة أخرى. إنها سبب إضافي لإثارة الذعر. فحتى لو صحت التقديرات، التي تقول إن مجموع المهاجرين الذين تستضيفهم أوروبا، تاريخيا، يبلغ 82 مليونا، فإن نسبتهم إلى عدد السكان محدودة. وساعد انخراطهم في مجالات العمل، متدنّية الأجور غالبا، في زيادة ثراء هذه القارة، والمحافظة على استقرارها السكاني، وتعزيز قدرة صناديق التقاعد على الوفاء بالتزاماتها حيال باقي السكان.
صحيح أن موجات الهجرة تصاعدت منذ عام 2015، لكن معدلاتها ظلت في حدود المليون مهاجر سنويا. وهي نسبة قريبة من معدلات الهجرة التاريخية. كما تجدر ملاحظة أن دول الاتحاد الأوروبي استوعبت في غضون أقل من ستة أشهر 7.3 مليون مهاجر من أوكرانيا "حسب مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين"، أو ما يصل إلى نحو 1.2 مليون كل شهر، لا كل سنة!
السبب العنصري واضح تماما، في القابلية على الاستيعاب. ولكنْ هناك سببان لا يقلان أهمية في نشر الذعر.
الأول، هو أن الضجيج الإعلامي حول "تصاعد موجات الهجرة" بات أعلى بكثير مما كان في النصف الأخير من القرن الماضي.
والثاني، هو أن اليمين المتطرف، الذي ظل منبوذا في المجتمعات الأوروبية، بسبب من روابطه الفكرية مع النازية، لم يعد منبوذا. من ناحية لتراجع أصداء الذاكرة، ومن ناحية أخرى لأنه استغل المخاوف من "طوفان" الأسلمة والمهاجرين لكي يرتقي إلى السلطة من جديد.
الصعود على سُلّم النسيان هو ما يوفر الآن الفرصة للفاشية الجديدة، وللنازيين الجدد في السويد، ولحزب البديل في ألمانيا، وغيرها من أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، أن تتحول إلى "تيار سائد" وقادر على أن ينقل عَدواه إلى أحزاب يمين الوسط الأوروبية التقليدية. فهذه بدورها صارت تُغازل الناخبين بثقافة الذعر ذاتها التي كان يثيرها النازيون القدامى ضد الأقليات الأخرى.
اليوم يتم استبدال المسلمين والمهاجرين باليهود، إنما على الأساس العنصري والثقافي نفسه.
برغم كل ذلك، فإن أصول الأزمة التي يثار من حولها الرماد، لا تكمن في ما يشكله المسلمون والمهاجرون من مخاطر. إنها أزمة مع الحقائق الاقتصادية التي لا علاقة للمسلمين والمهاجرين بها.
إيطاليا تغرق في أزمة ديون تبلغ 2.88 تريليون يورو، تعادل بمفردها نحو 25 بالمئة من إجمالي ديون منطقة اليورو، وتزيد نسبتها إلى الناتج الإجمالي المحلي على 150 بالمئة.. وهي بدأت تتفاقم منذ عام 2009، عندما وقفت إيطاليا واليونان معا على شفير هاوية واحدة. ولكن، بينما تمكنت أثينا من معالجتها، ظلت روما تحارب طواحين الهواء، لأن تكتلات اليمين انشغلت بمحاربة "طوفان" الهجرة بدلا من طوفان الديون.
ليس المسلمون ولا المهاجرون هم من أنفقوا ذلك المبلغ الخرافي. لقد أنفقته حكومات اليمين والتشرذم السياسي على امتداد عقدين منذ انهيار آخر تحالفات اليسار والوسط في عام 2001 بقيادة جوليانو أماتو، الذي سلم السلطة إلى سيلفيو برلسكوني ليقود حكومة اليمين الثانية.
أنفقت حكومات اليمين الإيطالي ذلك المبلغ لتشتري بقاءها في السلطة.
ولكن بما أن إثارة الذعر هي في الواقع حرب توريات، تغطي شيئا بشيء، فإن "العدو" الذي تخفيه سياسات ذرّ الرماد الآن، هو الاتحاد الأوروبي نفسه.
الاتحاد الأوروبي خصص 200 مليار يورو لإيطاليا في إطار خطة إنعاش. ولكنها على غرار خطة الإنعاش اليونانية، تتطلب القبول بسلسلة من الإصلاحات.
إيطاليا وهي تغرق، يصدح يمينها المتطرف، على لسان جورجيا ميلوني، زعيمة حزب "إخوة إيطاليا"، بالقول "إن الحفلة سوف تنتهي بالنسبة لأوروبا".
سوف يرى الإيطاليون أي حفلة هي التي ستنتهي: حفلة الديون الإيطالية التي تدفع البلاد إلى الإفلاس، أم حفلة الاتحاد الأوروبي، أم حفلة التوريات التي تتخذ من معاداة الإسلام والهجرة غطاء للهرب من الفشل الاقتصادي؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة