في حديثه لخريجي الأكاديمية العسكرية الأمريكية في "ويست بوينت"، مايو الماضي، أكد رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية الجنرال "مارك ميلي"، أن السنوات الخمس والعشرين المقبلة "لن تكون كسابقاتها".
وأضاف أن أمريكا "لم تعد القوة العالمية التي ليس لها منازع"، حيث إنه "يتم اختبار القوة الأمريكية في أوروبا من خلال العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وفي آسيا من خلال النمو الاقتصادي والعسكري الهائل للصين، وكذلك التهديدات النووية والصاروخية لكوريا الشمالية، وفي الشرق الأوسط وأفريقيا من خلال عدم الاستقرار الذي تحدثه التنظيمات الإرهابية".
لأول مرة منذ أن دخلت الولايات المتحدة الأمريكية الحرب العالمية الثانية تواجه هذا الكم من التحديات المتزامنة، دون أن تستطيع الحسم، سواء بالقوة السياسية، أو الاقتصادية، أو العسكرية في أي واحدة من هذه التحديات.
وقد كانت الولايات المتحدة لأكثر من سبعة عقود تعتمد على القوة السياسية، التي يعرّفها علماء السياسة بأنها "القدرة على جعل الآخرين يفعلون ما تريد دون أن تأمرهم بذلك"، فقد كانت السياسة الأمريكية في العالم تحقق أهدافها في المواجهات الكبرى عبر الاعتماد على قوتها السياسية، التي تجعل معظم الدول تسير في ركابها بصورة تلقائية، وهذا الأمر لم يحدث في الأزمة الأوكرانية والمقاطعة الاقتصادية لروسيا وحصارها الاقتصادي، ولم يحدث كذلك في التصعيد الأخير مع الصين.
كذلك كانت الولايات المتحدة بارعة في تطبيق سلاح العقوبات والمقاطعة الاقتصادية، والذي أطلق عليه الرئيس "وودرو ويلسون"، الذي شغل منصب الرئاسة الأمريكية من 1913 إلى 1921، اسم "العلاج الفظيع"، حيث تستطيع العقوبات معالجة المواقف الدولية الأكثر حدة بصورة لا تكلف الولايات المتحدة طلقة واحدة.. وهذا السلاح بدوره لم يستطع أن يحقق شيئا في الحرب الأوكرانية، حيث ارتد على المجتمعات الأمريكية والأوروبية بصورة أكثر قسوة وحِدة، وكانت أضراره على مَن فرضه أكثر من أضراره على المفروض عليه، وهو المجتمع الروسي.
وبذلك بدأت نهاية سلاح العقوبات، لأن ظاهرة العولمة، التي وصل إليها المجتمع الدولي، جعلت من فكرة العقوبات الاقتصادية، سيفًا ذا حدين، تصيب أضراره الدول التي تفرضه بالقدر نفسه الذي تصيب به الدولة المفروض عليها.
ونظرا لطبيعة التحديات الحديثة، التي تواجه الولايات المتحدة الأمريكية، لم يعد من السهل استخدام القوة العسكرية، لأن الأطراف التي تمثل التحدي من القوى الكبرى، التي ليس من السهل ضربها دون أن يصدر عنها رد فعل قوي ومؤلم، كما كان الحال مع العراق، وأفغانستان، والصومال، وغيرها.. لذلك أصبحت الوسيلة العسكرية مقيدة بالعديد من القيود، التي تُفقدها نجاعتها في مواجهة التحديات وتحقيق الأهداف.
كل ذلك بالإضافة إلى ظهور لاعبين دوليين مؤثرين من غير الدول، مثل التنظيمات الإرهابية والمتطرفة، يصعب التعامل معها بالوسائل التقليدية للحروب النظامية، لأنها تحترف الحروب غير المتكافئة في مواجهتها مع القوى التي تنخرط معها في أعمال عسكرية.
كل ذلك سيقود بلا شك إلى ظهور مرحلة جديدة في العلاقات الدولية تفقد فيها الولايات المتحدة الأمريكية تفرُّدها بقيادة العالم والتأثير فيه، وكما قال رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية الجنرال "مارك ميلي": "لن تكون الولايات المتحدة القوة العالمية التي ليس لها منازع"، فقد ظهر لها منازعون كُثر في أقاليم مختلفة من العالم، سواء سياسيا، أو اقتصاديا، أو عسكريا، أو أمنيا.
في ظل كل تلك التحديات الحقيقية، التي تواجه وضع أمريكا في النظام الدولي، تنصرف الإدارة الأمريكية الحالية إلى الانشغال بالصراعات الحزبية، والانتخابات التشريعية، ومستقبل الحزب الحاكم حاليا، وفي ظل انشغالها هذا تتجاهل المتغيرات الدولية، والمعطيات الجديدة، والتحولات الكبرى التي يشهدها العالم، وتتعامل مع كل تلك التحديات بمنطق القوة الأمريكية التي ليس لها منازع، في مشكلات كبرى ظهر المنازع فيها، وأثبت جدارته، وحقق أهدافه، وبدأ يطالب بنظام دولي متعدد الأقطاب، يزيح الولايات المتحدة من موقع التفرد بالقرار الدولي.
وقد شهدت اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها رقم 77، المنعقدة هذه الأيام، أكبر عدد من الدعوات من دول كبرى لإعادة صياغة نظام دولي جديد يقوم على التعدد والتنوع والعدالة، ويخرج من إطار الواحدية القطبية، التي تفردت بها الولايات المتحدة طوال 30 عاما مضت منذ نهاية الحرب الباردة، وتفكك الاتحاد السوفييتي، وهذا بدوره يؤكد أن التفرد الأمريكي قد ظهر له منازعون كثيرون.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة