كانت النمسا مهيأة لأن تكون البلد الأوروبي الأول الذي يحكمه اليمين المتطرف.
نجت النمسا بخاصة وأوروبا عامة، من «قطوع» جدي، عبر فوز «ألكسندر فان دربيلين» بالانتخابات الرئاسية ب 53 في المئة من أصوات الناخبين. ذلك أن التوقعات ما قبل الاقتراع، كانت ترجح فوز منافسه زعيم اليمين المتطرف «نوربير هوفير». وكان من المتوقع أن تكون النمسا البلد الأول في أوروبا الذي يحكمه عنصري متطرف، ولو تم ذلك لربما حذت دول أخرى حذوها، وبخاصة تلك التي ترتفع فيها أسهم اليمين المتطرف.
تزامن الخوف من تسلّم العنصريين حكم النمسا مع نجاح دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية، وهو ما يشبه اليمين المتطرف الأوروبي، علماً أن دعاية العنصريين الانتخابية كانت تستمد حججها من التجربة الأمريكية عبر القول: ما كان مستحيلاً في أمريكا صار ممكناً، وما يبدو مستحيلاً في النمسا سيصبح ممكناً أيضاً. وتزامن الخوف أيضاً مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وكانت سيرة هذا الخروج تستخدم كذريعة انتخابية عبر القول للمقترعين: انظروا إلى بريطانيا. من كان يصدق أنها ستخرج من الاتحاد الأوروبي، ومن كان يصدق أنها ستنجح في تدبير شؤونها بعد الخروج.
كانت النمسا مهيأة لأن تكون البلد الأوروبي الأول الذي يحكمه اليمين المتطرف. خصوصاً أن أسهمه ما انفكت تتصاعد في صفوف الرأي العام منذ سنوات، وكان من المتوقع أن يؤدي تسلمه الحكم إلى طي صفحة الخوف من الماضي النازي لهذا البلد.
ولعل هزيمة اليمين المتطرف في النمسا تحمل مؤشراً سيئاً لمارين لوبن المرشحة هي الأخرى لتحقيق تقدم مهم في الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة. فالتقديرات تشير إلى أن اليسار الفرنسي لن يتمكن من تجاوز عتبة المرحلة الأولى من الرئاسيات، وأن اليمين المتطرف سيكون منافساً جدياً لتيار اليمين التقليدي والوسط.
وإن كنا لا نعرف بعد حجم التأثير الذي سيخلفه الحدث النمساوي على انتخابات الرئاسة الفرنسية لكن التقاليد الجمهورية تفيد بأن اليمين المحافظ والوسط ، فضلاً عن اليسار ، سيشكلون كتلة جمهورية تحول دون تقدم المتطرفين تماماً ، كما فعلوا في أواخر القرن الماضي، عندما فشل رئيس الوزراء الاشتراكي في حينه ليونيل جوسبان في تجاوز عتبة المرحلة الأولى فحل محله جان ماري لوبن مؤسس «الجبهة الوطنية» المتطرفة ووالد مارين لوبن زعيمة الجبهة الراهنة والمرشحة الأكثر تقبلاً في صفوف الرأي العام من والدها. في المحصلة العامة يمكن القول إن الحدث النمساوي ليس مؤشراً جيداً بالنسبة لليمين العنصري الفرنسي الذي سيكون عليه من الآن فصاعداً أن يقنع ناخبيه بأن هزيمة «نوربير هوفير» ليست نهاية المطاف ، بدليل أنه حصل على أكثر من 40 في المئة من أصوات الناخبين وأنه بات على عتبة الرئاسة الأولى التي سيجتازها عاجلاً أم آجلاً.
رغم ذلك سيكون من الصعب على السيدة لوبن أن تقنع ناخبيها بخلفية التصويت العقابي لليمين المتطرف، فقد اختار النمساويون رئيساً من تيار الخضر ، وبدا أن البعض منهم اقترع حتى لا يصل العنصريون إلى الرئاسة وليس حباً في الخضر.
تبقى أسباب أخرى ربما ليس من مصلحة لوبن مناقشتها علناً، ومن بينها سبب متصل بالاضطرابات والفوضى التي تعيشها أوروبا بعد خروج بريطانيا منها ، ناهيك عن قضية اللاجئين والخوف الذي تشيعه في القارة العجوز ، فضلاً عن صعود أردوغان الذي يهدد الأوروبيين بالتخلي عن طموح بلاده الأوروبي والانتقال إلى مجموعة شنغهاي ، وبالتالي فتح حدوده أمام تدفق اللاجئين إلى أوروبا ، الأمر الذي يشكل كابوساً جدّياً للمسؤولين في القارة العجوز.
وللاضطراب وجوه أخرى في أوروبا التي لم تتمكن بعد من معالجة آثار الخروج البريطاني، وسيحتاج الأمر لسنوات طويلة حتى تعالج آثار هذه الخطوة، فضلاً عن الفشل الذي سجّله للتو رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رنزي الذي كان يريد إصلاحات دستورية تقلص من صلاحيات مجلس الشيوخ ، وتدعم موقع السلطة التنفيذية وتلغي نظام الأقاليم وتحقق الاستقرار في بلاده.
إن فشل رنزي يعني أن إيطاليا ستعود إلى المربع الأول من أزمتها ، فتضاف إلى قائمة البلدان غير المستقرة كاليونان والبرتغال وإلى حد ما إسبانيا، وبما أن الأسواق المالية هي بمثابة ميزان الحرارة لمثل هذه الأحداث، فقد سجل اليورو انخفاضاً غير مسبوق بالقياس إلى الدولار، في حين استعادت البورصات الأوروبية بعضاً من عافيتها بعد أن عاشت على إيقاع الانتخابات النمساوية والاستفتاء الإيطالي.
يفضي ما سبق إلى خلاصة مضمونها أن الاضطرابات التي تعيشها أوروبا بعد خروج بريطانيا وانتخاب «ترامب» في أمريكا، ربما حملت وتحمل الناخبين الأوروبيين إلى اختيار «الستاتيكو» خوفاً من المغامرة غير المحسوبة والمصير شبه المجهول مع اليمين المتطرف، لكن ذلك لن يضع حداً للتيار العنصري المتعاظم عاماً بعد عام، ولن يحول دون تقدم اليسار المتطرف أيضاً، ذلك أن المجتمعات السياسية في أوروبا تشهد شيخوخة متزايدة للتيارات السياسية التقليدية يميناً ويساراً، التي كانت تحتل صدارة المسرح السياسي خلال القرن العشرين. وإذا كان صحيحاً أن اليسار المتطرف واليمين المتطرف ليس جديداً ، وكان على الدوام يقف على هامش القوى السياسية التقليدية، فالصحيح أيضاً أنه لم يجرب في الحكم وكان على الدوام هدفاً للشيطنة التي تستخدمها الأحزاب التقليدية ، فترد الأول إلى النازية والفاشية وترد الثاني إلى الستالينية.
الواضح أن الناخب الأوروبي اقترع وسيقترع لصالح «الستاتيكو» في الحكم ، ولن يخوض مغامرة اليمين المتطرف ، أقلّه إلى حين انحسار الغموض والاضطراب الذي تعيشه القارة العجوز.
* نقلا عن الخليج
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة