الغضب اليميني الذي استفاد منه ترامب هو غضب تم صناعته صنعاً من جانب نخبة الحزب الجمهوري وبمعرفتها.
جدير بالتأمل أننا رغم اكتشافنا فشل الإعلام الأميركي الذي فوجئ تماماً بفوز ترامب، مثلما فشل في تغطية الحملة، ما زلنا ننقل عنه ما يردده من تفسير لنتيجة الانتخابات! فبعد أن فوجئ بفوز ترامب، يقول الإعلام الأميركي أن ترامب «المناهض للمؤسسة»، فاز بالرئاسة.
وإنه جاء تعبيراً عن الرغبة في تغيير «كل ما تعارفت عليه المؤسسة»، فقلنا في العالم العربي الشيء نفسه! هذا رغم أن ترامب لم يكن يوماً خارج تلك المؤسسة، وتثبت الأحداث يوماً بعد الآخر أنه لن يأتي بغير ما تعارفت عليه تلك المؤسسة!
فمما لا شك فيه أن الولايات المتحدة شهدت غضباً على يمين الساحة السياسية طوال فترة الحملة الانتخابية التي استمرت لما يقرب من العامين، لكن ترامب لم ينشئ الغضب الموجود منذ عقد تقريباً، وإنما وظفه لصالحه.
وتعبير «المؤسسة» مقصود به النخبة بمعناها الواسع أي مسؤولي الحزبين الكبيرين، الديمقراطي والجمهوري، المنتخبين ورموزهما في المناصب الحساسة والتنفيذية، فضلاً عن شبكة معقدة من المرتبطين بهما في الإعلام ومراكز الفكر ودوائر المال والفكر والثقافة.
وترامب لم يكن أبداً خارج تلك «المؤسسة» حتى يكون مناهضاً لها، فرجل الأعمال والملياردير المعروف كان أحد الممولين الكبار للحزبين لا لحزب واحد منهما، بما في ذلك مرشحو الرئاسة، فهو كان أحد ممولي ميت رومني حين ترشح للرئاسة عام 2012، الذي قال وقتها إنه «شرف كبير» له أن يدعمه ترامب. وترامب كان قد دعم هيلاري كلينتون نفسها عام 2008 بل وقدم تمويلاً لمؤسسة كلينتون.
والرجل كان أهم نجوم حركة «مولد أوباما»- التي انبثقت عن حركة حفل الشاي اليمينية- وزعمت الحركة أن أوباما لا يحق له دستورياً تولى الرئاسة لأنه لم يولد على الأرض الأميركية كما ينص الدستور، وهو الزعم الذي صمتت نخبة الحزب الجمهوري إزاءه، لأنه كان يفيد في تغذية ذلك الغضب.
والغضب اليميني الذي استفاد منه ترامب هو غضب تم صناعته صنعاً من جانب نخبة الحزب الجمهوري وبمعرفتها، فقد ثبت أن حركة «حفل الشاي» كانت ممولة جيداً من كبار ممولي الحزب الجمهوري.
كما ساعد الحركة في الجوانب التنظيمية والحركية تنظيمات يمينية موجودة منذ عقود وتقودها رموز معروفة لا يمكن اعتبارها من خارج «المؤسسة» مثل ديك آرمي الذي كان زعيماً للأغلبية في مجلس النواب في التسعينيات.
بعبارة أخرى، وكما تقول الأكاديمية الأميركية المعروفة تيدا سكوكبول إن حركة «حفل الشاي» كانت حركة شعبية يمولها مليارديرات ويتزعمها قيادات الحزب الجمهوري.
وقيادات الحزب الجمهوري اليوم تختلف تماماً عن نخبة الحزب الجمهوري القديمة. وهى نخبة دخلت أولى موجاتها الكونجرس مع نيوت جينجرتش عام 1978 وقادها الأخير عبر تكتيكات المواجهة والصدام للأغلبية في المجلسين عام 1994.
أما الموجة الثانية فهي التي صنعتها رموز مهمة من قيادات الكونجرس بمن فيهم رئيس مجلس النواب الحالي، بول رايان، وزعيم الأغلبية الحالي كيفين ماكارثى، عبر سعيهم الحثيث لتجنيد عدد من المنتمين لحركة حفل الشاي لخوض انتخابات مجلس النواب عام 2010 ليساعدوها داخل المؤسسة التشريعية على وقف أي تعاون مع الديمقراطيين بالمطلق.
وقد سعت تلك الرموز لحركة حفل الشاي وليس العكس، وأسهمت في تأجيج الغضب بداخلها واستطاعت بالفعل تحقيق فوز ضخم بدخول 87 عضواً جديداً بدعم من حركة حفل الشاي.
والنخبة الجديدة للحزب الجمهوري أكثر يمينية بكثير من النخبة القديمة، إذ تم تطهير الحزب من تيار الوسط فيه إما عبر هزيمة مرشحيه وإما عبر تقاعدهم إحباطاً من الأجواء الجديدة التي لم يعهدوها في الحزب من قبل.
ومن هنا، فإن ترامب يعتبر امتداداً لتلك النخبة وأكثر تجلياتها جموحاً، حتى الخطاب السياسي الذي استخدمه في حملته الانتخابية، فلم يخرج في جوهره عما كان يقال في دوائر النخبة الجديدة للحزب، فعلى سبيل المثال، فإن موقف ترامب من قضية الهجرة لا يختلف كثيراً عن موقف أغلب مرشحي الرئاسة الجمهوريين، الذين ترشحوا ضده.
وقضية الهجرة هي أحد أسباب اشتعال ذلك الغضب اليميني أصلاً ضد بوش الابن، فهو حين سعى للتقدم ببرنامج إصلاح شامل لقوانين الهجرة يعطي فرصة الحصول على الجنسية بضوابط محددة للمهاجرين غير الشرعيين اعتبر اليمين المشروع بمثابة خيانة لهم.
ثم كيف يكون «المناهض للمؤسسة» هو نفسه الذي يختار في إدارته من كانوا طيلة حياتهم جزءاً من تلك المؤسسة، بدءاً من وزير المالية الجديد، الذي هو أحد رموز وول ستريت، ومروراً برئيس الجهاز الفني للبيت الأبيض الذي كان رئيساً للحزب الجمهوري، ووصولاً حتى لدعوة ميت رومني مرشح الحزب للرئاسة في 2012، بعد التراشق بينهما، والحديث عن ترشيحه لمنصب مهم قد يكون وزير الخارجية!
دونالد ترامب يمثل آخر تجليات «النخبة الجديدة» للحزب الجمهوري التي هي أحد المكونات الأصيلة «المؤسسة» في واشنطن! أين إذاً ترامب المناهض للمؤسسة؟!
*نقلا عن البيان
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة