بجانب الدلالات الواضحة والمواقف الظاهرة على سطح الأحداث، حملت أزمة أوكرانيا معها إشارات تستحق البحث والقراءة عبر متغيرات غير مباشرة.
وأخص هنا ما يتعلق بعلاقات أوروبا مع كل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا.
لقد كشفت الأزمة منذ أيامها الأولى أن العلاقات الأوروبية مع الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد كما كانت طوال العقود الماضية.. كذلك الأمر بالنسبة للعلاقات الأوروبية-الروسية، فلم تعد موسكو ذلك "العدو اللدود الذي يمثل تهديداً جذرياً للأمن الأوروبي". وفي هذا نقطة جديرة بالملاحظة والمتابعة، فرغم ما أفرزته الأزمة من فجوة في الموقف وتوتر بين الجانبين الأوروبي والروسي، فإنها في الوقت ذاته رفعت الغطاء عن جوانب ارتباط أوروبية-روسية، خاصة مع ألمانيا والمجر، التي صرح رئيس وزرائها قبل فترة أن أوروبا "تدفع ثمن العقوبات على روسيا".
وفي المقابل، وضح بما لا يدع مجالاً للشك أن العلاقات الأمريكية-الأوروبية فقدت مصادر التماسك والاتساق في تقديرات كل جانب لمصالحه وتهديداته.
ويمكن بسهولة استذكار كيف كانت أوروبا خلال الأسابيع الأولى من الأزمة متأخرة عن واشنطن بخطوات.. بل بدا واضحاً من خطاب ومواقف بعض الدول الأوروبية عدم اكتراثها، أو على الأقل عدم اقتناعها، بالتحذيرات الأمريكية مما أسمته "استهداف روسيا لأوكرانيا"، أو ما يعنيه ذلك من "تهديدات ومخاطر على الأمن الأوروبي".
أما أوروبيا فهناك تغير كامن لم يظهر على السطح حتى الآن ولكنه مؤشر مهم، ألا وهو الانقسام الأوروبي. فأوروبا لم تعد هي أوروبا، التي كنا نعرف قبل سنوات من حيث ترابط مصالحها السياسية وحساباتها الأمنية، التي تمثل كتلة واحدة، بل إن الجوانب الاقتصادية والعوامل ذات التأثير المباشر على القرارات الأوروبية صارت مختلفة التقدير بين دولة أوروبية وأخرى.
ربما لم يتبلور هذا الوضع بشكل واضح، ولم تعترف أوروبا به علناً بعد، لكن يكفي الرجوع إلى ما أعلنته بعض الدول، مثل ألمانيا وفرنسا، حول مخاوفها من ارتداد العقوبات على روسيا بمردود سلبي عليها.
بل امتد تأثر تلك العلاقة إلى الدائرة الأوسع، بحيث لامست حلف الناتو.. فرغم أن أزمة أوكرانيا اندلعت بسبب نية الناتو التوسع شرقاً، يبدو أن معادلة التأثير والتأثر المرتبطة بالأزمة كشفت عن نقاط الضعف والتباينات في الرؤى بين الدول الأعضاء في الحلف. وهو ما ظهر بوضوح في اختلاف، بل وتناقض، تصريحات قيادات ومسؤولي الحلف في مرحلة التوتر والتصعيد قبل الأزمة، ثم فيما بعد بدء العملية الروسية.. ما يعني أن الناتو لم يعد ذاك الكيان الواحد المتماسك، وأنه فقد وحدة الرؤية لدى أعضائه والتوافق حول دوره ومهامه الأساسية.
الثابت في كل متغيرات الأزمة الأوكرانية هو تأكيد أهمية العامل الاقتصادي في توجيه السياسات وتبني الدول مواقف مصيرية، ورغم أن هذا معلوم مسبقاً، فإن تأكيده وتسليط الضوء عليه اكتسب أهمية أكبر في ظل استعادة القوة المسلحة رونقها وهيبتها بأيدي الجيش الروسي.. حيث لم تتراجع القوة الاقتصادية أو تتضاءل أهميتها، بل على العكس برزت بشدة، خاصة الطاقة، وكانت حاضرة علناً وصراحة في كثير من مواقف طرفي الصراع.
الخلاصة، أن هذه الأزمة مليئة بالدروس والعبَر، ما يدفع بالجميع إلى ضرورة إعادة الحسابات في التعاملات الدولية، فإذا كان الاعتقاد بأن القوة العسكرية باستطاعتها الحسم على الأرض، فإن ذلك لا يعني بالضرورة تحقيق الهدف النهائي أو إنهاء الأزمة لصالح الطرف الأقوى عسكرياً، لأن العوامل الأخرى، غير العسكرية، هي من تلعب دوراً جوهرياً في إدارة الأزمة من الجانبين.
والأهم أن تداعيات الأزمة ليست فورية كالصواريخ والمدافع، وإنما تظهر تأثيراتها لاحقاً، وربما بشكل أعمق وأشد من تلك الأسلحة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة