"هذا وقتنا.. بإبداع نغير ونؤثر ونغير.. أفكار كثيرة تجمعنا.. هذا وقتنا.. أبدع.. لا تسأل عن أي حدود".
لعل هذه ليست مجرد كلمات أغنية افتتاحية أو أداء تصاحبه موسيقى باهرة، بل دعوة للاحتفاء بالمستقبل، تسلط الضوء على ثقافة دولة الإمارات العربية المتحدة، والتي تجمع بين بلدان العالم وتسرد قصة الشعار الرئيس لـ"إكسبو": "تواصل العقول وصنع المستقبل".
يمكن القطع، أن "إكسبو 2020" حدث استثنائي بسبب تعددية وسرعة المتغيرات الدولية، كما أنه الحدث العالمي الأكبر بعد جائحة وضعت العصا في دواليب الأنشطة العالمية لمدة عامين، سواء كانت أنشطة اقتصادية أو ثقافية أو غيرها من مناحي الحياة.
جاء "إكسبو 2020" ليجمع البشرية في طريق السعي لمواجهة تحديات دولية عسيرة، وبهدف إيجاد حلول للتحديات التي تطرحها، وربما في مقدمتها أمران على وجه العجل:
أولا: السعي قدما في طريق مجابهة ما خلفته جائحة الفيروس الشائه كوفيد-19 من كوارث وأولها صحيا وبدنيا، وتأثيرات الأزمة على حالة الصحة العامة، والبحث في الطرق اللازمة لقطع الطريق على تكرار الأزمة مرة أخرى على النحو المخيف الذي جرى.
ثانيا: مواجهة التغيرات المناخية، التي تكاد تذهب بكوكب الأرض ومن عليه، لا سيما أن المعرض العالمي يأتي قبل بضعة أسابيع من انطلاق قمة المناخ في غلاسكو باسكتلندا، وهي قمة الحسم، فإما أن تسارع البشرية لاستنقاذ الكوكب الأزرق أو أن تتركه يضيع، وما من بديل.
لهذا فإن الأسبوع الأول من أعمال المعرض ومحاوراته مخصص بالفعل لمناقشة أبعاد هذه القضية التي أضحت فوق وقبل كل قضية آنية أو مستقبلية.
يجمع "إكسبو دبي" نحو 25 مليون فردا من قارات الأرض الست، ويبسط أمامهم واقع الحال المعاصر بإشكالياته كافة، لهذا تبدو الإمارات "رواق الأمم" في القرن الحادي والعشرين.
على أرض الإمارات سيجد المشاركون أحاديث تجمع بين السياسة والاقتصاد، الثقافة والاجتماع، وسيشارك الكل في حوار حول بوصلة العالم وإلى أين تتوجه، وبخاصة في ظل التغيرات العميقة التي تمضي بها المقادير، فهناك تحالفات تطفو على السطح تغير وجه العالم القديم الذي عرف الناتو ووارسو، واليوم نجد نشوء وارتقاء "أوكوس" و"كواد"، ثم اشتداد عود شنغهاي والبريكس.
طوال ستة أشهر هي عمر "إكسبو 2020"، ستشهد قاعات المعرض العملاقة حوارات جدية عن الثورة الصناعية الرابعة، تأثيراتها على مناحي الحياة، والعلاقة بين البشر والآلة، ناهيك بالثورة التكنولوجية والتعليمية وكيفية المواءمة بينهما.
أضف إلى ذلك أن الإمارات، التي باتت مركزا ماليا وعالميا تقدميا، ستعقد على أرضها ندوات لأفضل العقول الاقتصادية في العالم، تلك التي تسابق الوقت لتجنب أزمات مالية عالمية، بعضها قادم من الغرب الأمريكي، حيث إشكالية رفع سقف الدين الأمريكي تواجه الجميع وليس الأمريكيين فقط، فيما الشرق الصيني يكاد يكرر أزمة عقارات أممية قد تصيب الاقتصاد العالمي في قلبه من جديد.
هنا تظهر الحاجة الماسة إلى التشاور الإنساني المعمق من أجل مواجهة التحديات معا عبر التعاون وتواصل العقول، ومن أجل صنع مستقبل جديد، وهذا هو جوهر "إكسبو 2020 دبي"، الذي يتجسد في شعاره أيضا.
يعن للمرء أن يتساءل: "هل يصب هذا الاحتفال العالمي في صالح الإمارات فحسب؟".
الشاهد أنه، وإن كان يؤكد محورية الدور الإماراتي حول العالم، ويلفت الانتباه إلى قدرتها على تحويل الحلم إلى حقيقة، إلا أنه وفي الوقت عينه يسلط الضوء على ما تملكه المنطقة من آفاق كبيرة للتنمية في الخليج العربي والشرق الأوسط، الأمر الذي يجعلهما مركز جذب للاستثمارات العالمية والأفكار غير التقليدية.
يفتح "إكسبو 2020" الطريق واسعا ومعبدا أمام أفكار الإبداع لا الاتباع، ويمهد الدروب العقلية والنقلية أمام مصالحة بين التراث والمعاصرة، من غير تصارع أو تنازع، فعلى أرض الإمارات تتجلى الإبداعات الحديثة في إطار من الحفاظ على الروح العربية الأصيلة ومنظومة الأخلاقيات البدوية الشهيرة بالكرم والجود وإكرام الضيف، وبكل ما فيها من إيجابيات ومنطلقات خلاقة.
من هنا تبدو الحقيقة المؤكدة، وهي أن "إكسبو" ليس حدثا وقتيا سوف ينقضي، وإنما فعل من أفعال التغيير الجذري، التي تترك آثارها الهادفة تسهم في تقدم ورقي هذه المنطقة لعقود طوال قادمة، ويحقق أثرا إيجابيا في العقول والنفوس على حد سواء.
ولعل أنفع وأرفع ما في الحدث العالمي على أرض الإمارات، هو أنه يخلق جسورا من المودات بين الأمم ويزيل جدرانا ارتفعت بين البشر، ما يؤدي إلى تعظيم فرص الابتكار والتقدم كثمرة للقاء الأفراد والأفكار بطرق جديدة وملهمة.
يأخذ "إكسبو 2020" بيد عالم ما بعد الحداثة والمعاصرة إلى مرحلة جديدة من العولمة، هناك حيث ثلاثية استراتيجية يبلورها المعرض العملاق:
أولا: الفرص، ففي وسط هذا الحشد البشري يتم إطلاق العنان لإمكانات الأفراد والمجتمعات لرسم المستقبل، من خلال مبادرات الابتكار، التي تخلق فرصا جديدة للتنمية والارتقاء.
ثانيا: التنقل، وهذه نقطة غاية في الأهمية، ذلك أنه في زمن التواصل السيبراني، بات تنقل الأفكار أسرع من تنقل البضائع والموجودات، ما يلقي بظلال كثيفة على الحاجة إلى وسائل تواصل آمنة من غير تهديدات ما ورائية يمكنها أن تعوق نمو النوع البشري، كما الحال مع عالم الاختراقات في الفضاء الإلكتروني.
ثالثا: الاستدامة، وهذا بدوره مجال واسع، يبدأ من عند العمل على استدامة كوكب الأرض صالحا للحياة البشرية، مرورا بمستقبل كوكب أكثر نظافة وأمانا وصحة للجميع، وهو هدف وثيق الصلة بالأهداف الإنمائية العالمية.
يزخر "إكسبو 2020" بكثير جدا من فعاليات الثقافة والتسامح والفنون، إذ يهتم بالجوانب الإنسانية الأخرى، ذلك أنه لو كان الاقتصاد وفعالياته مهم، فالمساحات الفكرية ليست أقل شأنا، والأدعى في زمن تسليع الإنسان أن يتم الاهتمام بكل ما هو معنوي وأدبي.
سوف تمتلئ قاعات وردهات المعرض بندوات وأمسيات ثقافية تجمع كبار العقول المفكرة من مختلف بلدان العالم في إطار من حوار الحضارات، لا صراعها، كما يتوقع أن تطلق الإمارات مبادرة عالمية جديدة على صعيد التسامح العالمي.
تفتح الإمارات الباب واسعا للفنون، التي ترقي الأمم والشعوب، فهناك نحو 60 فعالية يوميا على مدار 182 يوما متتاليا من فرق موسيقى تعزف أجمل الألحان، مرورا بالأمسيات الشعرية، وصولا إلى المهرجانات الموسيقية والرقصات الباهرة لمجموعة من فرق الرقص الرائدة على مستوى العالم.
ما الذي يتوجب قوله قبل الانصراف؟
باختصار غير مخل، يأتي "إكسبو 2020" بمثابة درة التاج لمسيرة نجاحات عاشتها الإمارات خلال السنوات الأخيرة، جرت فيها على أرضها أحداث هي الأولى من نوعها في الخليج العربي، مثل زيارة بابا الفاتيكان، البابا فرنسيس.
ومن أجوائها المتسامحة المتصالحة صدرت للعالم أهم وثيقة إنسانية منذ عصور التنوير الأوروبية، وثيقة الأخوة الإنسانية، التي تعتني بعالم صعدت فيه الأصوليات ونمت فيه من جديد القوميات والشوفينيات.
ثم جاء السلام الإبراهيمي، الذي يفتح الباب للمودات والتعايش بين البشر ويغلق الطريق في وجه العداوات التاريخية، ويعمل في الوقت ذاته على إحقاق الحقوق من غير تفريط.
وربما كان مشهد الأيادي الإماراتية، التي امتدت للعالم بالخير في وقت الجائحة، وبالمساعدات الإنسانية من دواء وكساء، والتي وصلت إلى أبعد نقطة في العالم، هناك حيث غابات الأمازون، مسك الختام.
نعم إنه وقت الإمارات.. مبارك للأشقاء وإلى مزيد من النجاحات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة