إنه التوظيف السلبي الناتج ليس من الخلل في الإسلام كدين، الخلل في فهم البعض القاصر، وربما الجاهل لتعاليمه.
الافتراض الرئيسي لمجمل طيف حركات الإسلام السياسي النشيطة، من «القاعدة» إلى الصحوة، مروراً بكل قوس قزح المنتشر في عدد من المجتمعات العربية والمجاورة، التي تدعي الانتماء للإسلام الجهادي أو الدعوي أو السياسي أو التوسعي، هو أن «الإسلام في خطر!»، ولذلك يجب الدفاع عنه من منظورهم؟ والترويج إلى تلك المقولة بكل همة ونشاط، في بيئة فكرية في الغالب مسلوبة أدوات ومنهج التفكير العقلاني المستقل، أو واقعة تحت تهديد وتخويف أيديولوجي، ولم يتوقف أحد ليقول ما هي المخاطر على الإسلام؟ وهو كدين ثانٍ أكبر دين في العالم، ويؤمن به ويمارسه أكثر من 1.8 مليار مسلم، يشكلون ربع سكان العالم تقريباً (إحصاء 2015)، كما أنه أكثر الديانات انتشاراً في بلدان كثيرة أغلبيتها غير مسلمة، منها الولايات المتحدة وأوروبا، كما تشكل جماعاته من الصين مروراً بوسط آسيا وحتى الفلبين، مجموعات وازنة في مجتمعاتها! وتقول لنا الدراسات المستقبلية، إنه في خلال خمسين سنة من اليوم، سوف يصبح الإسلام ديانة لأكبر عدد من البشر على البسيطة، يتبعون هذا الدين لأسباب موضوعية! إذن، لماذا الخوف على الإسلام؟
ينتج الخوف المصطنع على الإسلام خوفاً مضاداً من الإسلام. ووقف ذلك الزحف المقدس إلى الماضي، كما يحدث للحوثيين و«داعش» ونظام الملالي، إذا لم يتم الانتباه له بحذق، سوف يغرق الجميع في الفوضى
إنه التوظيف السلبي الناتج ليس من الخلل في الإسلام كدين، الخلل في فهم البعض القاصر، وربما الجاهل لتعاليمه، وتوظيف هذا الجهل والقصور الصادر من عقلية تفرز كل ما هو خرافي وغير منطقي وعبثي، وتقدمه للبعض على أنه الإسلام؛ فيعمل به البعض القليل، ولأنه فاقع ينتشر صداه بين الناس، ويصبح التوظيف المضاد ضد المسلمين سهلاً ويسيراً. يظهر الخوف على الإسلام من البعض أو الادعاء بذلك في عدد من التجليات غير المفسرة ولا العقلانية، ولضرب مثال واحد فقط، كما حدث في الكويت في الأسابيع القليلة الماضية؛ فقد نظمت حملة ضد أحد المحال التجارية التي تقدم خدمة تجسيم شكل العميل بالأبعاد الثلاثية، وبسرعة اتهمت تلك الخدمة بأنها «تروّج للأصنام!»، وتأتي تلك الحملة بعد حملة أخرى أكثر انتشاراً، وهي منع عدد كبير من الكتب من العرض في معرض الكتاب القادم الشهر المقبل، بل ومنع عدد من كتب المبدعين الكويتيين؛ لأن جملة هنا أو هناك اعترض على ورودها في النص متشدد وسلبها سياقها! في الوقت الذي تضرب العالم موجة من التطور التقني الهائلة، الذي تمكّن أي شخص، يريد أن يقرأ أي كتاب من الحصول عليه «قبل أن يرتد إليه طرفه!»، التفسير الأقرب إلى العقل، أن هناك عدداً من الناس اختلطت عندهم أهداف التكسب السياسي، بالتكسب المادي والمصلحي، مصحوباً بكمية ليست قليلة من الجهل الناتج من تثقيف مركز سابق وسلبي للعقول، وترسبت لديهم مفاهيم خاطئة تنسب إلى الإسلام بسبب أحاديث موضوعة، أو تصنيفات بعض كتب التراث المنتجة في عصور الظلام أو عصور القهر، يخلط بعشوائية بين العادات والتقاليد، وبين صحيح العبادة، فنشأ عندهم ذلك الخوف المَرضي من أي ظاهرة حديثة على أنها «هجوم على الإسلام». القاعدة الأساس، أن الدين والتدين هما حاجة إنسانية، وهناك عدد كبير من الأديان في العالم الذي نعيش، بعضها ركبت عليه عادات وتقاليد ليس بالضرورة هي منه، كما أنها لا تشكل ضرراً كبيراً على المجتمع، وبعضها نبت عليه الكثير من مظاهر التقاليد والأعراف، بل وحتى الطقوس، وكثير منها معطّلة للمجتمع وتطوره. التفسير عندي، أن الأزمة التي تدخلنا في هذا النفق المفاهيمي والحركي (مشروع الإسلام السياسي بتجلياته المختلفة) هي في صلب المأزق الثقافي العربي، الذي تصدى له البعض في أكثر من منعطف سياسي - تاريخي، لكنه لم يصل حتى الآن إلى النضج المعرفي. يقعده عن ذلك ضيق قنوات النقاش و«كمية كبيرة من الإرهاب الفكري»، وفقر مدقع في فهم المنهج العلمي، وبخاصة في الدراسات الاجتماعية.
إن حجم الإخفاق الذي مُني به مشروع النهضة العربية، كونه إخفاقاً في السياسة أدى إلى إخفاق في الاقتصاد وإلى إخفاق في التنمية، كان سببه الرئيسي هو «الإخفاق في الاقتراب من نقد الثقافة»، وخلط النسبي بالمطلق، ذلك الإخفاق أنجب شيئاً من الوعي الكاذب لتفسير أسباب تلك الأحداث التي أصابت العرب، وهي تحولات متسارعة وغير متوقعة على الأقل من ثلاثة اتجاهات، ضغوط اقتصادية - اجتماعية مع الدخول في السوق الرأسمالية العالمية، فجّرت بدورها صراعات اجتماعية داخلية، تزامنت مع صراعات بين الدول الكبرى على موارد المحيط العربي، كل ذلك أنتج شَحناً انفعالياً وتوتراً مضاداً، لجأ إلى التفسير الخرافي والضبابي كأنه القول الفصل. ومع بداية عصر الفوضى وعدم اليقين لزمت الحاجة إلى ملجأ لإعادة قراءة المشهد العربي وتفسيره، وتمخض ذلك عن اجتهادات عدة، ظهرت من تيارات دعوية مختلفة، كان البحث عن يقين هو شغل الشاغلين في التنظير للإسلام السياسي، على أساس تقديم اليقين على فضاء الشك والريبة، وعلى خلاف القاعدة، أن أكثر الناس يقيناً أعظمهم جهلاً؛ لأن العلوم الاجتماعية، كما تطورت هي نسبية لا أسطورية، تمثلت الأزمة، ولا تزال في نقص الوعي بأهمية المسألة الثقافية في عملية التنمية (البعض يفضل مفهوم النهضة)، وتدفقت على المجتمع العربي كمية هائلة من الخرافات، زادتها الثورة في وسائل التواصل الاجتماعي سوءاً، حتى أضحى التكسب منها وكأنه مشروع، كدعوة الناس على «واتساب» لتفسير الأحلام، أو تقديم إجابات لحكم «ممارسة الجنس مع الجن»! على سبيل المثال لا الحصر، المخرج يبدأ بنقد جنوح المشروع «الإسلام السياسي» على اتساعه عن النظر إلى ذاته وإلى ثقافته بشكل جاد ونقدي، وفصل العادة والتقليد والتوظيف السياسي عن المبدأ والمصلحة، مع تفكيك علمي لها من حيث المفهوم والممارسة. لذلك؛ فإن الاهتمام بالثقافة يجب أن يكون اهتمام دولة، يقترب منه بشكل علمي ومنظم، وتقوده مؤسسات واعية لدورها وواضحة في أهدافها، وهو - أي ذلك الدور - يستخدم أدوات كثيرة، منها المدرسة والكلية والجامع ووسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي الحديثة وترقية مستوى النقاش العقلي في المجتمع، وفوق ذلك إرادة سياسية، وكذلك استخدام الإنفاق العام والخاص في مشروعات البحث والتطوير في العلوم الاجتماعية، وتشجيع الإبداع والابتكار. ولعل الاستراتيجية الكبرى التي أرى اعتمادها في هذا الخصوص تتكون من مسارين (المصالحة والمفاصلة)، أولاً المصالحة بين «النص والعصر» وثانياً «المفاصلة بين العادات والعبادات»، فتحت وطأة الخطاب الآيديولوجي يتراجع الدور المعرفي، والذي يحتاج إلى جهد، وإعمال عقل، وتبنٍ من مؤسسات الدولة، وإرادة سياسية. ومن هنا، فإن الأمل أن تضع الدولة العربية مشروع النهضة الثقافية بكل مكوناته، على أولوياتها وتجعله طريقاً للتنمية والاستقرار، وهي عملية ليست هينة، لكنها مطلوبة، تبدأ بالاعتراف بأهمية الثقافة، بالمعنى الحديث لها، كقاطرة أساسية للنهضة!
آخر الكلام:
ينتج الخوف المصطنع على الإسلام خوفاً مضاداً من الإسلام، ووقف ذلك الزحف المقدس إلى الماضي، كما يحدث للحوثيين و«داعش» ونظام الملالي، إذا لم يتم الانتباه له بحذق، سوف يغرق الجميع في الفوضى.
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة