تستمر الاحتجاجات في فرنسا التي أحبها بمفاهيمها العريقة، ويعشقها السياح لمحلات العطور والأناقة والأزياء، فمع دخول موسم السياحة الصيفي، يعود ملف العنصرية إلى السطح، على إثر مقتل "الفتى نائل" برصاص شرطي.
ولم يشفع تصريح والدة نائل، بأنها لا تلوم الشرطة بل الشخص الذي قتل ابنها، في تهدئة الاحتجاجات، فلقد اندلعت أعمال شغب من فتيان الضواحي من أصول غير فرنسية، قد تؤدي إلى إعلان حالة الطوارئ، كما حصل في نوفمبر 2005، ما يعكس حالة من الانقسام في المجتمع الفرنسي، وفشل الحكومات الفرنسية المتعاقبة في استيعاب المواطنين المهاجرين.
لقد شكلت حادثة مقتل نائل صدمة لصغر سنه، ولأنها لم تكن دفاعا عن النفس، فالهرب من جنحة بسيطة كالقيادة بدون رخصة، لا تستدعي إطلاق النار، ما يفسر معاناة فئة كبيرة من المجتمع الفرنسي، من المهاجرين من أصول غير أوروبية، ومختلفة من حيث الثقافات والأعراق والأديان، وتعاني التهميش والإقصاء، ولم يتم دمجها مع المجتمع الفرنسي كما ينبغي، ما أثر سلبا على الوحدة الوطنية الفرنسية.
ولنضع الدواء على الجرح، لا بد أن تحتوي الدول مواطنيها من كافة فئات المجتمع، فهي من احتضنتهم من الأساس، ولا بد أن يعي الفرنسيون من فئة المهاجرين، أنهم جزء من مجتمع فرنسي، وغير ملزم بتفهم إرث مكون من أجيال قديمة من المهاجرين الأوائل، بمسبباته السياسية والدينية والثقافية، فالمسألة تحتاج لحوار صادق بين الطرفين يعزز من الوحدة الوطنية، فالمستفيد مما يجري هي الأحزاب اليمينية واليسارية المتطرفة التي تترقب الانتخابات المقبلة.
تفاقمت الاحتجاجات السلمية لتتحول إلى العنف، مع سوء الأوضاع المعيشية على أثر تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، ولم تعد سلطة الإنفاذ قادرة على فرض القانون، أو الحكومة قادرة على تلبية مطالب القوى المحتجة، بسبب الفراغ الثقافي الناتج عن عدم انخراط مجتمعات المهاجرين منذ البداية بالمجتمع الفرنسي بقيمه وثوابته، ما أدى إلى توارث الاختلافات والتصادمات من جيل إلى جيل.
تشكل ضاحية "نانتير" الباريسية الحضور الأكبر لاحتجاجات أبناء المهاجرين، وقد تعود تحديات ضواحي المدن الفرنسية إلى قرون سابقة من التاريخ الفرنسي، حينها استقطبت فرنسا مقاتلين من مستعمراتها الآسيوية والأفريقية، وتستمر الهجرة في وقتنا الراهن إلى نفس الضواحي، عبر الهجرات غير الشرعية من خلال قوارب البحر المتوسط، وغيرها من الأزمات السياسية التي ولدت موجات الهجرة، بسبب الحروب والفقر.
وليس شماتة في الدعم الغربي لمشروع الربيع العربي، الذي حاول تمزيق المنطقة العربية، وتصعيد تنظيم الإخوان الإرهابي للسلطة، إلا أن الشواهد تؤكد حصول موجات هائلة من الهجرة، كنتيجة لدول أوروبية عديدة ومنها فرنسا، وهي نفس الدول التي تعاني اليوم من ضعف في هويتها الوطنية، فلعل هذا الدرس تتعلم منه حكومات الدول الأوروبية المستقبلية، فالتدخل في شؤون الدول لم يكن مجديا، وكما يقال في القول المشهور: "الدنيا دوارة".
يمر الرئيس ماكرون بتحدي الاحتجاجات للمرة الثالثة، بعد أزمات أنظمة التقاعد والسترات الصفراء، في توقيت سيئ مع دخول العطلة الصيفية، ما يعني إلغاء عشرات الآلاف من الحجوزات، قد تكون لها أضرار بالغة على الاقتصاد الفرنسي الذي يمر بوضعية غير مريحة، مع انخفاض التصنيف الائتماني السيادي إلى AA-، ووصول الديون الفرنسية إلى 3 تريليونات يورو، وتراجع دخل الفرد إلى المرتبة الـ25 عالميا عام 2022، بعد أن كانت في المرتبة الخامسة قبل نصف قرن، وهي جميعها أرقام تؤكد أن الحرب في أوكرانيا، أسهمت في إضعاف أوروبا.
لا بد أن تتعلم فرنسا من دروس الاحتجاجات السابقة، فالحلول البعيدة عن المقاربات الاجتماعية لن تكون مجدية، ولابد من التعامل مع مواطنيها كفرنسيين طوال الوقت، ولا أن تختار تصنيفهم كمهاجرين عند الإخفاقات، وأصبحت المصالحة بين الدولة ومجتمع المهاجرين أكثر إلحاحا، مع تعزيز مفاهيم المواطنة والمساواة والعدالة، لتعود فرنسا كما عهدناها، وباريس كما أحببناها مدينة الأحلام والرومانسية والجمال.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة