لم تكن حرب الجيش الذي يسيطر على قيادته إخوان السودان بحاجة إلى دليلٍ إضافي على سقوطها الأخلاقي.
حتى جاء تحقيق (فرانس 24) ليكشف أن الجيش والكتائب الإسلامية استخدما غازاتٍ كيماوية محرّمة دولياً في قصفٍ ضد خصومهم وضد المدنيين على حدٍّ سواء.
ولم يكن ذلك مجرّد تجاوزٍ حربيٍّ ميداني، بل مثَّل لحظة انكشافٍ كاملة لجماعةٍ انقلبت على شعبها، ثم شرعت في قتله تحت ذريعة إنقاذه والحفاظ على كرامته، وشعبٍ يختنق بـ”الكلور” الذي كان في السابق يطهِّر به الماء وينقِّيه فيستقيه قبل أن تحوّله الطغمة العسكرية إلى سمٍّ زعافٍ يستنشقه فيرديه قتيلًا!
تحقيق الشبكة الإخبارية الفرنسية الدولية وثّق هجومين ضدّ قوات الدعم السريع في سبتمبر 2024 قرب مصفاة الجيلي للبترول في شمال العاصمة الخرطوم.
الصورُ والفيديوهات، وتحليلُ خمسة خبراء دوليين، أكدت أن الغاز المستخدم هو الكلور الصناعي السام، وقد أُطلق على مواقع ومنشآت مدنية تسيطر عليها قوات الدعم السريع.
ما ورد في التحقيق ليس مجرد شهادةٍ تقنية، بل وثيقة اتهامٍ أخلاقيٍّ وسياسيٍّ بامتياز؛ الصور، والوقائع على الأرض، وتحاليل الخبراء، كلها تشير إلى أن الكلور قد استُخدم كسلاحٍ قاتل، وأن القصف استهدف مناطق يقطنها مدنيون، لا جبهاتٍ عسكرية بالمعنى التقليدي، فحوّل الهواءَ إلى مقبرة، وتحولت السماء إلى سلاحِ إبادة!
لكن ما أظهره تقرير الشبكة الفرنسية ليس سوى غيضٍ من فيض. فبحسب مصادرَ متعددةٍ – مدنيةٍ وعسكريةٍ – جرى استخدام أسلحةٍ كيماويةٍ أشدَّ فتكًا من غاز الكلور في هجماتٍ لاحقةٍ استُخدمت في مناطق متفرقةٍ من البلاد، يُعتقد أنها جُلبت من دولٍ حليفةٍ لسلطة الجيش في بورتسودان، عبر وسطاءَ محلّيين وإقليميين، في انتهاكٍ وخرقٍ فاضحٍ لمعاهدةِ حظرِ الأسلحةِ الكيميائية التي وقّع عليها السودان وصار عضوًا ملتزمًا بمبادئها منذ العام 1999.
إن الجيشَ الذي يُفترض أن يحمي تراب الوطن هو ذاته الذي سمّم هواءه، والمليشيات والكتائب الإسلامية التي تزعم حمل راية "الحق الإلهي" هي ذاتُها التي أطلقت غازاتِ الخنق في وجه أبناء جلدتها!
هكذا انقلبت معادلة الحرب، إذ لم تعد حربًا لجماعةٍ إسلاميةٍ إجرامية أشعلت الحرب ضد مواطنيها من أجل أن تعود إلى السلطة التي أسقطها عنها الشعب بثورة جماهيرية كاسرة، بل أصبحت حربًا بين شعبٍ يريد الحياة، وسلطةٍ انقلابيةٍ مارقةٍ لا ترى في هذا الشعب سوى وقودٍ لحربها، وضحايا لشرعيتها الزائفة.
ولكن الموت بالغاز لا يزول بزوال المعركة ولا ينتهي بانتهاء مراسمِ الدفن، بل يبقى في ذاكرة العالم، كما بقي غاز إيطاليا الفاشية بقيادة موسوليني في إثيوبيا، وكما بقيت في الذاكرة صورُ غرفِ الغاز الأليمة في هولوكوست النازيّ هتلر بألمانيا، شاهدةً على وحشية الإنسان حين يتحلّل ضميره.
إن العالم يقف اليوم أمام جريمةِ حربٍ مكتملةِ الأركان، وما لم تُفتح تحقيقات دولية مستقلة، ويُقدَّم الجناة – جيشٌ وكتائبُ إسلامية – إلى العدالة الدولية التي ظلت تسمح لهم بالوقوف أمامها كمدّعين زورًا ضدّ دولٍ بريئةٍ من شرورهم، لا كمتهمين بشنّ الحرب ضدّ شعبهم وإبادته، فإن العالم يكون مشاركًا في الجريمة بصمته.
إن السودانيين يموتون مرّتين: مرّة بالغاز، ومرّة بالصمتِ العالمي المحيِّر أمام جرائمِ جيشٍ تحوّل عملياً إلى ذراعٍ عسكرية لحركة إرهابية دينية مسيّسة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة