عودة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير إلى مشهد الشرق الأوسط ليست مجرد خبر عابر، بل وكأنها صفحة بيضاء من الماضي لم يُمحَ حبرها ولم تجفّ تلك الدماء.
توني بلير، الذي ارتبط اسمه بزمن دخول غربي بقيادة أمريكية إلى العراق عام 2003، ومن ثم عمل مبعوثًا للجنة الرباعية الدولية إلى فلسطين لعدة سنوات، يعود اليوم من جديد إلى الشرق الأوسط بمبادرة أمريكية أيضًا، ليقود هيئة انتقالية في غزة تحت عنوان إعادة الإعمار وصناعة السلام.
قد يكون الأقرب إلى المنطقة العربية والشرق الأوسط، وعلاقته العميقة بدول الغرب، مع واشنطن وتل أبيب من جهة، وقدرته على إدارة الملفات المعقّدة من جهة أخرى، نعم، يملك خبرة طويلة في التعاطي مع سياسة المنطقة، لكن ما زالت الذاكرة العربية لم تنسَ تدخله الخارجي العميق في تغيير سياسات المنطقة، مما يجعله فاقدًا لعنصر الثقة الشعبية.
سيواجه الكثير من التحديات، والسيادة الوطنية للفصائل لن تكون راضية بهذه الإدارة الأجنبية التي ستكون أول مبادئها نزع السلاح لحماية إسرائيل، أما السلطة الفلسطينية فستكون أول المستقبلين لأنها ستضمن الاستمرار في السلطة، ولا يزال الكثير من الفلسطينيين ينظرون إليه بعين الريبة بسبب دوره السابق في محادثات عام 2014، الداعية إلى السلام والتي تعثّرت بسبب رؤيتهم فيه ومحاباته لإسرائيل.
إن في عودة بلير إلى المنطقة جزءًا من معالجة الخلل الأمريكي وعودة الاستراتيجية الأمريكية بعد دخول الصين وشعورها بأنها استغلت الحرب الانتخابية والانقسامات الأمريكية الداخلية لتتوسع في نفوذها في منطقة الشرق الأوسط. إن إعادة تشكيل المشهد في غزة مرتبط بفتح الطريق أمام تسوية شاملة للصراع الفلسطيني–الإسرائيلي.
تسعى واشنطن إلى إيجاد شخصية ذات وزن دولي قادرة على تسويق خطتها دوليًا وإقليميًا، ووجدت في بلير رجلًا يمكنه أن يتحدث لغة العواصم الغربية والعربية كونه متعمقًا ولديه خبرة ودراية في المنطقة. لكن السؤال المهم يبقى: هل يمكن لشخصية فقدت الكثير من رصيدها العربي أن تقود عملية تتطلب قبل كل شيء ثقة السياسة العربية الشعبية؟
إن صناعة السلام لا تقوم على براعة ودهاء الدبلوماسيين فحسب، بل على الشرعية والعدالة الحقيقية دون الميل إلى أحد الأطراف، وعلى تقديم رؤية تلبي تطلعات الشعب الفلسطيني في حصوله على الحرية والدولة والأرض.
قد ينجح بلير في إدارة المرحلة المقبلة والانتقالية أو في تأمين تمويل لإعادة إعمار غزة، لكنه لن يستطيع بمفرده أن يغيّر معادلة انعدام الثقة، والسلام الحقيقي لن تصنعه أسماء مثل بلير أو قيادات فلسطينية، بل إرادة سياسية تعترف بحقوق الفلسطينيين وتكفل الأمن لجميع الأطراف وحلّ الدولتين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة