يشهد المشهد الإقليمي في جنوب آسيا تصاعدًا متسارعًا في منسوب التوترات.
لا سيّما في ضوء التحركات العسكرية الباكستانية والغارات الجوية المتكررة التي استهدفت كابول وعددًا من المدن الأفغانية، وما تبعها من ردود فعل ميدانية وهجماتٍ مضادّة من الجانب الأفغاني على الشريط الحدودي تحت عنوان «هجمات الثأر».
وقد أسهمت الوساطة القطرية والسعودية في احتواء الأزمة مؤقتًا، فعاد الهدوء النسبي إلى المنطقة، غير أنّ الأيدي لا تزال على الزناد، والقلق يخيّم على الأفق الإقليمي.
ولا يمكن تجاهل الجدل الواسع الذي أثارته هذه التطورات داخليًا ودوليًا حول دوافع الغارات الباكستانية ومشروعيتها، في ظلّ ما يُنظر إليه على أنه انتهاك واضح لمبدأ السيادة الوطنية، تحت ذرائع لم تحظَ بإجماع داخل باكستان ذاتها، فضلًا عن التحفّظات التي أبداها المجتمع الدولي تجاهها.
وفي الوقت الذي تذهب فيه بعض الأوساط الباكستانية إلى تفسير هذه التحركات باعتبارها محاولةً لممارسة الضغط غير المباشر على كابول بشأن قاعدة باغرام، أو سعيًا لإعادة ترسيخ موقع باكستان كوسيطٍ اقتصادي في ملف معادن المنطقة، ترى أطرافٌ أخرى أن مثل هذه القراءات تفتقر إلى الواقعية، وتقترب من حدود «أحلام اليقظة»، إذ لم تعد واشنطن ولا كابول في حاجةٍ إلى وكلاء مزدوجي الولاء أو شركاء متقلبين في إدارة توازنات الإقليم ومصالحه الاستراتيجية.
وفي هذا السياق، تُسوّق باكستان تصنيفًا جديدًا لحركة «طالبان باكستان» تحت مسمّى «فتنة الخوارج»، وهي ذرائع دينية لا يمكن عزلها عن سياق داخلي أكثر تعقيدًا. فباكستان تواجه تحديات من جماعات مسلّحة وحركات متطرّفة عديدة داخل أراضيها، منها «حركة لبيك» وجماعات مصنّفة مثل «جماعة الدعوة» المرتبطة بـ«لشكر طيبة»، وحركات انفصالية في بلوشستان، إلى جانب نحو سبعٍ وثمانين جماعة مدرجة كمنظمات إرهابية وفق لوائح إدارة مكافحة الإرهاب في إسلام آباد ولوائح دولية. وهناك جهات باكستانية وإقليمية ودولية ترى أن باكستان تدّعي دور الضحية وتستخدم هذه الجماعات المتطرفة لتحقيق مصالحها الخاصة.
هذا الواقع يعيد طرح السؤال المشروع: من يحرّك خيوط هذه اللعبة المعقّدة؟ ومن المستفيد من إعادة خلط الأوراق بهذه الطريقة؟
رغم ما يبدو من أن باكستان تتحرك وفق ما تدّعي أنه حماية لأمنها القومي، إلا أن الوقائع الجيوسياسية تشير إلى ضغوط متعدّدة، أهمها توازن علاقتها الاستراتيجية مع الصين، التي تمثّل اليوم شريكًا أساسيًا في مشاريع ضخمة، أبرزها «الممر الاقتصادي الصيني – الباكستاني». هذا التفاهم الصيني – الباكستاني لا يمر دون تدقيق من أطراف دولية مثل الولايات المتحدة والهند، اللتين تنظران بقلق متزايد إلى تنامي النفوذ الصيني في منطقة تتقاطع فيها المصالح العسكرية والاقتصادية.
تجد باكستان نفسها اليوم عاجزة أمام التوازنات المعقدة في علاقاتها مع الصين والولايات المتحدة وحتى روسيا وإيران، ويشكّل تدهور علاقتها مع أفغانستان عبئًا جديدًا، بل الأكثر من ذلك هو وجود علاقة أفغانية – هندية متنامية تُشكّل معادلة جديدة تعتبرها باكستان خسارة لاستثمار أربعة عقود في أفغانستان.
تبرز أفغانستان كفاعل محوري في المشهد الإقليمي، حيث تسعى حكومة الأمر الواقع إلى ترسيخ الاستقرار الداخلي وصياغة علاقات متوازنة وبنّاءة مع دول الجوار والمجتمع الدولي.
ويُشار إلى أن الطابع الديني للنظام قد يُمثّل عامل استقرار داخلي إذا تم توظيفه بحكمة. ويقتضي ذلك من دول الجوار إدراك خصوصية أفغانستان الثقافية والدينية لتجنّب التقديرات الخاطئة. ومن المهم الإشارة إلى أن هذا النموذج لا يسعى إلى التصدير الإيديولوجي أو فرض مرجعية مناوئة، على الرغم من وجود بعض التوجّهات المحافظة وبعض التفسيرات المتشددة التي قد لا تتواكب مع معطيات العصر الراهن.
إن أي محاولة لخلق فراغ سياسي أو أمني جديد ستضرّ بجميع الأطراف، بما فيها باكستان ودول الجوار والعالم العربي والقوى الغربية. فالمنطقة لا تحتمل صراعًا جديدًا، خصوصًا في ظلّ هشاشتها الاقتصادية والاجتماعية، إذ قد يؤدي استغلال الخطاب الديني المتطرف إلى إشعال اضطرابات واسعة، وتحويل أي شرارة صغيرة إلى أزمة تهدّد ما تبقّى من استقرار.
لمعالجة الواقع الراهن، يجب تجاوز «ردّ الفعل» بتبنّي استراتيجية تقوم على: قراءة الحقائق، فهم المجتمع، احترام السيادة، وإعادة بناء الثقة. الرهان الأساسي هو على الحوار والتكامل، لا التصعيد.
في هذا السياق، يبرز التناقض في سياسة باكستان التي شجعت الحوار مع الحكومات الأفغانية السابقة، لكنها ترفض النهج ذاته مع الجماعات التي نشأت في أحضانها، وفقًا لما أكّد عليه زلماي خليل زاد المبعوث الأمريكي السابق. الخطر الأكبر لا يكمن في الغارات أو السلاح، بل في ترك الفكرة دون توجيه والفراغ دون تنمية. المسؤولية جماعية (شرقًا وغربًا) لصياغة مقاربة جديدة تضمن استقرار الإقليم وتمنع تكرار المآسي.
الخاتمة
إن المشهد المتفجّر بين كابول وإسلام آباد ليس مجرد أزمة حدودية، بل هو مرآة لتشابك النفوذ الدولي والتناقضات الداخلية والتحدّي الوجودي لاستقرار الإقليم. في هذا السياق، لم يعد دور دول الخليج مقتصرًا على الوساطة العاجلة، بل تحوّل إلى ضرورة استراتيجية لملء الفراغ وتوجيه البوصلة نحو الحلول التي ترتكز على التنمية، والاعتراف بالسيادة، ونزع فتيل التطرف.
فالمنطقة اليوم تقف على مفترق طرق: إمّا الانزلاق نحو صراع إقليمي مدمّر تشتعل ناره بالفتاوى المتطرّفة، أو انتهاج مسار جديد يقوم على التعايش العملي والحوار البنّاء. وتكمن مسؤولية الجميع، من واشنطن إلى بكين، ومن العواصم الإقليمية إلى كابول وإسلام آباد، في تبنّي مقاربة شاملة تتجاوز لغة الغارات وذرائع الأمن إلى لغة التكامل والشراكة.
فالاستقرار في أفغانستان وباكستان هو استقرار للمنطقة بأسرها، ولن يُصنع بالسلاح، بل بالثقة، والتنمية، واحترام سيادة الأوطان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة