2022 عام انحسار النفوذ الفرنسي في أفريقيا.. الأسباب والخيارات
"دعمنا العسكري للدول الأفريقية سيستمر، لكن وفقًا لمبادئ جديدة"، تصريحات للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أذنت بغروب شمس فرنسا في القارة السمراء.
فما يقرب من ثلث البلدان الأفريقية كانت تحت السيطرة الفرنسية في مرحلة ما من تاريخها، إلا أنه بعد ستة عقود من "الاستقلال"، لم تعد فرنسا القوة المهيمنة.
فمن مالي إلى بوركينا فاسو، امتدت المشاعر المعادية لفرنسا، عرضت البلد الأوروبي لانتقادات شديدة في أجزاء من غرب أفريقيا بسبب "قبضتها الخانقة" على اقتصاد القارة، التي يتهم قادتها القوة الاستعمارية السابقة بالتربح.
وبعد أن فقدت فرنسا مكانتها في مستعمراتها السابقة شمال أفريقيا، بدأت دول أفريقيا جنوب الصحراء مثل مالي وبوركينا فاسو وجمهورية أفريقيا الوسطى في التشكيك في مشاركة مستعمرها السابق في اقتصاداتها وحكوماتها.
فما مظاهر الانحسار الفرنسي؟
في السنغال، اتهم الشباب الذين شاركوا في احتجاجات العام الماضي الرئيس ماكي صال بأنه دمية في يد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فحطموا نوافذ محطات الوقود الفرنسية وأشعلوا النار في المتاجر الفرنسية.
وفي بوركينا فاسو، عندما اندلع انقلاب في يناير/كانون الثاني 2022، مزق الخياطون الأعلام الفرنسية وأعادوا تشكيل الألوان الثلاثة معًا أفقيًا لصنع أعلام روسية.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي كانت النيجر على موعد مع احتجاجات هتف المتظاهرون فيها: "لتسقط فرنسا!"، فيما حاول الجنود صد قافلة عسكرية فرنسية.
في مالي، فشل الجنود الفرنسيون الذين جاءوا في البداية بدعوة من الحكومة المالية في وقف انتشار الجماعات المسلحة منذ ما يقرب من عقد من الزمان، فيما واجهت فرنسا اتهامات بعدم احترام الماليين، وطردت باماكو السفير الفرنسي جهارا نهارا.
تحول صارخ
ففي تحول صارخ منذ عقد مضى، عندما سيطر "الإرهابيون" على مدنها الشمالية في عام 2012، ناشدت مالي فرنسا للحصول على مساعدة عسكرية، وعندما وصل الجنود الفرنسيون، استقبلهم الماليون على أنهم "أبطال تحرير".
إلا أنه الآن يتم طرد تلك القوات من البلد الأفريقي، ويتم إلقاء اللوم عليهم في العقوبات التي فرضتها المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس"، والتي تهدف إلى محاولة حمل المجلس العسكري على الالتزام بتسليم السلطة.
وتواجه فرنسا اتهامات بفشلها في وقف التمرد الذي انتشر عبر حدود مالي، مما أدى إلى زعزعة الاستقرار في مساحة شاسعة من الأراضي القاحلة في الساحل الأفريقي.
ذلك الغضب الشعبي، جاء فيما لم تعد القارة الأفريقية معتمدة على التمويل الفرنسي، الذي كان يومًا مصدرًا رئيسيًا للتأثير على بلدانها، فباتت الآن تتلقى مبالغ كبيرة من الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بينما أصبحت الصين أكبر شريك تجاري لأفريقيا.
وأصبح من الشائع الآن سماع دعوات لإلغاء الفرنك الأفريقي - العملة الإقليمية التي تستخدمها العديد من البلدان الناطقة بالفرنسية والمربوطة باليورو بموجب ضمان الحكومة الفرنسية، والتي يقول منتقدوها إنها تمكن فرنسا من السيطرة على اقتصادات الدول التي تستخدمها، بينما تقول عنها باريس، إنها تضمن الاستقرار الاقتصادي، لكن للكشف عن أسباب الغضب الشعبي من فرنسا، يجب العودة إلى التاريخ، لاستنباط الأسباب والدروس.
لمحة تاريخية
بعد انتخابه للرئاسة الفرنسية في عام 2007، وعد نيكولا ساركوزي بوضع حد للنفوذ الفرنسي غير المبرر في شؤون المستعمرات الأفريقية السابقة، لكن الطريق إلى فك الارتباط بدا طويلا وبطيئًا.
وتدريجيًا على مر السنين، قللت باريس من وجودها في أفريقيا في المجالات السياسية والعسكرية والإنسانية، فيما أعيد التفاوض تدريجياً على عقود الدفاع وبنودها السرية.
وفيما وعدت حملة ساركوزي عام 2007 بإنهاء التدخل الفرنسي في أفريقيا، إلا أن باريس لم تنجح يومًا في البقاء خارج القارة السمراء لفترة طويلة؛ وعندما أصبح فرانسوا هولاند رئيسًا في عام 2012، لم يكن لديه خيار سوى التركيز على القضايا الأمنية في منطقة الساحل، إلا أنه لم يكن لديه القوة السياسية لإحياء جهود الإصلاح.
خطوات للتغيير
ومع تولي ماكرون المنصب عام 2017، كان لدى فرنسا رئيس يدرك تمامًا الحاجة إلى التغيير ولديه النفوذ السياسي والحماس الشخصي لإنجاح المهمة؛ فزاد من مساعداته للقارة، وبدأ في إعادة القطع الأثرية الثقافية التي سُرقت خلال الحروب الاستعمارية، وتجاوز العلاقات المعتادة بين الحكومات لإشراك الأجيال الشابة والمجتمع المدني.
وخلال فترة ولايته الأولى، سعى ماكرون إلى تنشيط التواصل الدبلوماسي لبلاده مع البلدان في جميع أنحاء أفريقيا، فحاول معالجة إرث الاستعمار الفرنسي في البلدان الفرنكوفونية بشكل مباشر، وسعى إلى الترويج لرؤية الدبلوماسية الفرنسية مع القارة السمراء من خلال المزيد من المساعدات الخارجية وتعزيز العلاقات بين الشعوب القائمة على روح الشراكة بين أنداد.
إلا أنه مع ذلك، أصبحت بلاده الآن هدفًا لشكاوى وانتقادات أفريقية مريرة على نطاق ربما لم يسبق له مثيل، مما طرح تساؤلات من قبيل كيف يمكن لرئيس معني بأفريقيا أكثر من أسلافه، وأكثر وعيًا أيضًا بكيفية تغير القارة، أن يواجه مستوى من عدم الشعبية الفرنسية لم يسبق له مثل منذ عقود؟.
ما أسباب الانحسار الفرنسي؟
أسباب الانزعاج الحالي من فرنسا تمتد إلى عقود قبل انتخاب ماكرون في عام 2017، بحسب المحلل السياسي الإيفواري سيلفان نجيسان، الذي قال إنه "يمكنك الاستشهاد بالخلافات التاريخية المرتبطة بالاستعمار. فالكثير منا هم أبناء آباء عرفوا الفترة الاستعمارية وإهاناتها".
إلا أن سلسلة من "الأخطاء" جعلت فرنسا تفقد الكثير من شعبيتها داخل أفريقيا؛ ففي جولة دبلوماسية في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 إلى أفريقيا، وجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رسالة "مفاجئة" لطلاب الجامعات في واغادوغو ببوركينا فاسو. فبدلاً من الادعاء بأنه سيقلب صفحة سياسة فرنسا تجاه أفريقيا، كما فعل معظم الرؤساء الفرنسيين من قبله، قال إنه لا توجد صفحة يطويها.
وتقول مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، إن النهج العسكري الفرنسي "أساء الحكم" على التحولات السياسية الجارية في منطقة الساحل؛ فباريس تجاهلت الهياكل الحاكمة لدول الساحل، فيما ساهمت برامج التعاون العسكري الفرنسية في الصعود السياسي السريع للقوات الخاصة والضباط العسكريين.
وأدى تركيز السلطة في أيدي الحكومة والجيش بمساعدة فرنسا إلى غياب إصلاحات نقل السلطة، بحسب "كارنيجي" التي تقول إن النهج العسكري الفرنسي أساء الحكم على التحولات السياسية الجارية في منطقة الساحل.
وأوضح أن باريس تجاهلت الهياكل الحاكمة لدول الساحل، فيما تجاهلت السياسة الفرنسية كيف أدى المأزق السياسي والوضع الأمني المترنح إلى تأجيج الطلب المحلي على اللوائح الأخلاقية والاجتماعية المستوحاة دينياً وتسريع تشكيل هذه السلطات الأخلاقية الجديدة.
في العاصمة المالية باماكو، غذت الحكومة موجة متزايدة من قومية بامبارا، وألقي باللوم في هذه المشاكل الأمنية على المجتمع الدولي، وعملية برخان الفرنسية.
وأعلنت فرنسا في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، انتهاء العملية الفرنسية، التي أطلق عليها اسم "عملية برخان"، والتي تعد معطلة، منذ فبراير/ شباط من العام نفسه، عندما قررت فرنسا سحب قواتها من مالي، فيما غادر آخر الجنود الفرنسيين قاعدتهم العسكرية بمدينة غاو، في مالي، يوم 15 أغسطس/ آب 2022.
وأدى القصف الجوي الفرنسي للمتمردين التشاديين الذي هدد نظام الرئيس إدريس ديبي في فبراير/شباط 2019، والاندفاع العسكري الفرنسي في مالي في فبراير/شباط 2020 إلى تآكل النفوذ الفرنسي، بعد أن أثبتت باريس أنها "ستستمر في التصرف كحامٍ غير مشروط".
وتقول "كارنيجي"، إنه بينما سعى ماكرون إلى تعزيز سياسة فرنسا الاقتصادية والمساعدات بأدوات مالية تهدف إلى تعزيز العلاقات القائمة وصياغة علاقات جديدة، إلا أن النهج في بعض الأحيان كان مبالغًا فيه ولم يؤت ثماره.
وأشار إلى أن السياسة الأمنية الفرنسية التي يحركها الجيش في منطقة الساحل فشلت في تطوير طرق فعالة لنزع فتيل التطرف أو التكيف مع التحولات الاجتماعية والسياسية في المنطقة، في حين أن محور ماكرون قد خلق مساحة سياسية جديدة للمشاركة بين فرنسا وأفريقيا على قدم المساواة، فإن رؤية الرئيس الفرنسي للمساعدة المتبادلة والشراكات المتبادلة بين فرنسا والدول الأفريقية لا تزال غير محققة.
هل من خطوات لتدارك الأمر؟
ستفشل أي محاولة لفتح فصل جديد في علاقات فرنسا مع الدول الأفريقية إذا لم تتمكن من الاعتراف بهذه السياسات الخاطئة واستغلال الفضاء السياسي الذي تخلقه وتعزيز علاقات أعمق مع المجتمعات الأفريقية والشركاء الجدد.
ويقول "كارنيجي"، إنه على فرنسا تكوين علاقات مع شركاء جدد؛ وتغيير علاقاتها مع شركائها القدامى في وسط أفريقيا وفي منطقة البحيرات العظمى في بوروندي وجمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا.
وتحتاج فرنسا إلى استخدام قوتها الرمزية لدعم تطلعات المواطنين الأفارقة وتوقع التحولات القادمة، وسيحتاج الدبلوماسيون الفرنسيون إلى الانخراط بمهارة للمساعدة في تسهيل وتجاوز التحولات التي يتم التفاوض عليها بالفعل بين الجهات الفاعلة المحلية، والعمل مع المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية.
وتقول "كارنيجي"، إنه على فرنسا إعادة التفكير في دبلوماسيتها العامة والتأييد العلني أو الضمني لصالح المواقف التي قد تتحدى هذه الأنظمة الاستبدادية، ما من شأنه أن يساعد في تأمين انتصارات محدودة.
ويمكن لفرنسا إعادة ضبط شراكاتها للتركيز بشكل أكبر على الحكم الرشيد والعدالة النزيهة وسيادة القانون والشفافية، إذا كانت تريد أن تظل شريكًا أمنيًا للمنطقة، كما يجب عليها إجراء مراجعة شاملة وشفافة لسياساتها وسياسات التعاون العسكري.