أمعن أردوغان في ابتزازه للأوروبيين، وقد بدلهم هذا من حلفاء يرحبون بتركيا داخل عائلتهم، إلى خصوم يشعرون بعبء العلاقة مع أنقرة.
بات واضحاً أن فرنسا تحاول لعب دور قائد الاتحاد الأوروبي في العلاقة مع الخارج، انسحاب بريطانيا من التكتل خلق فراغا يتيح هذا، والتعقل الألماني في التعامل مع جميع الملفات ساهم وشجع باريس، أما العامل الثالث فهو حماس الرئيس الشاب إيمانويل ماكرون الذي وصل عبر موجة "تمرد" على الأحزاب التقليدية في بلاده.
تحضر فرنسا في ليبيا ولبنان والعراق وشرق المتوسط، وقبلها تصدر ماكرون المشهد في الدعوة إلى صفحة جديدة مع روسيا، وطالب بالجيش الأوروبي الذي يتولى حماية التكتل بدلا من الناتو الذي تملي فيه أمريكا شروطها على الجميع، وهي فكرة هزت العلاقات بين باريس وواشنطن، وأحدثت توترا يتصاعد حتى اليوم ولكن بهدوء.
ثمة كثير مما يقال في التوتر الفرنسي والأمريكي المستمر، ولكنه يتحرك تحت سقف تحالف استراتيجي لا زال متماسكاً بقوة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، لأنه ببساطة يتجاوز شخصي الرئيسين إيمانويل ماكرون ودونالد ترامب، ويتعلق أكثر بأنظمة وبرلمانات وشركات وشعوب لديها من القيم الغربية المشتركة الكثير.
تبدو تركيا أنها الخصم الأكثر وضوحا لفرنسا اليوم، ولهذه الخصومة ما يبررها في ظل سعي الرئيس رجب طيب أردوغان إلى إحياء الإمبراطورية العثمانية التي اندثرت قبل نحو مئة عام، وهذا السعي عندما لا يواجهه الناتو، يصبح حلف شمال الأطلسي من وجهة نظر ماكرون في عداد الميت سريريا ولابد من معالجته.
حيثما يستخدم أردوغان عنترياته تجد أحيانا الرئيس الفرنسي يرد عليه، وكأنه لا يتردد حتى باستدعاء قطعه العسكرية ووضع خطوط حمراء أمام أطماع السلطان، ولاشك أنه ظفر في هذا بدعم واضح من دول الاتحاد الأوروبي، لأن علاقة بروكسل مع أنقرة وصلت إلى حدود بعيدة جداً من التشوه، وبات لزاماً على الأوروبيين التكاتف.
أمعن أردوغان في ابتزازه للأوروبيين، وقد بدلهم هذا من حلفاء يرحبون بتركيا داخل عائلتهم، إلى خصوم يشعرون بعبء العلاقة مع أنقرة في كل زمان ومكان، وفي نهاية المطاف كان لابد من وقفة أوروبية حازمة في وجه السلطان العثماني الجديد، وقد تولى ماكرون قيادة الجبهات داخل حدود القارة العجوز وخارجها.
يضم الاتحاد الأوروبي سبعة وعشرين جيشاً، ويأتي الجيش الفرنسي في المرتبة الأولى بينها والخامسة عالمياً، أما على المستوى الاقتصادي فتحتل فرنسا المرتبة الثانية أوروبياً بعد ألمانيا، والسابعة عالمياً بعد الولايات المتحدة والصين واليابان وألمانيا والهند والمملكة المتحدة، وفق إحصاءات صندوق النقد الدولي للعام 2019.
هذه الأرقام تقول ببساطة إن فرنسا تمتلك مؤهلات جيدة لقيادة الاتحاد الأوروبي، ولكن هذه القيادة لن تكون واقعاً بطريقة فرض القرارات، أو دون حالة من التشاركية مع بقية دول التكتل وخاصة ألمانيا، على الأقل وفق النظام الداخلي الذي يشترط موافقة جميع دول الاتحاد على القرارات الكبرى أو المصيرية إن جاز التعبير.
ثمة انسجام وتنسيق بين برلين وباريس في إدارة الاتحاد الأوروبي عززته الضرورة بعد خروج المملكة المتحدة من التكتل، لا شك أن هناك بين الدولتين نقاط خلاف في بعض الملفات الداخلية والخارجية، ولكن القاعدة الأساسية التي لا يمكن الإخلال بها هي أن مصلحة الاتحاد يجب أن تأتي أولاً، لأن هذا التكتل يجب أن يستمر.
التنسيق بين برلين وباريس كان واضحاً في عدة قضايا واجهت التكتل خلال العامين الماضي والحالي، وعلى رأسها التعامل مع الملف النووي الإيراني، وهو يتجدد اليوم في تلازم التحركات الخارجية للدولتين، فبعد كل زيارة خارجية لمسؤول فرنسي يظهر في المكان ألماني يؤكد على ذات الطرح، حدث ذلك في لبنان والعراق على الأقل.
تحت شرط المصلحة العليا للاتحاد الأوروبي حصل ماكرون على نوع من التفويض ليس فقط من ألمانيا، وإنما من دول عديدة في التكتل، وفي ظل هذا التفويض ربما يلعب الرئيس الفرنسي اليوم دور القائد العسكري على الجبهات الأوروبية مع تركيا وغيرها من الخصوم، في مناطق شرق المتوسط والشرق الأوسط والقارة الأفريقية.
ولاشك أن الولايات المتحدة قد لا يروق لها الزعامة الفرنسية للاتحاد الأوروبي، ولكن معارضتها لذلك تصطدم بسبب رئيسي بارز وهو موسم الانتخابات الرئاسية الذي يجعل واشنطن تعيش نوعاً من الحياد تجاه جميع القضايا الخارجية، كما أن خصوم الفرنسيين هم خصوم الأمريكيين في الشارع والكونغرس ومؤسسات الدولة.
النقطة الثانية التي قد يصطدم بها الأمريكيون هي الدعم الألماني والأوروبي عموماً للمساعي الفرنسية في كل مكان، وتزداد وطأة هذا الدعم عندما تنضم إليه بريطانيا، الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة، ثمة مصالح عليا لهذه الدول يجب أن تؤخذ بالاعتبار على الضفة الأمريكية، هذه القاعدة، وإن اهتزت قليلاً تبقى ثابتاً من ثوابت السياسة العالمية التي تتغير بفعل الحروب أكثر من أي شيء.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة