مع تصاعد المشهد في شمال سوريا بين تركيا وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وتزايد التحولات السياسية في دمشق، تجد القضية الكردية نفسها على مفترق طرق جديد.
وتبرز الوساطات التي يقودها إقليم كردستان العراق بقيادة مسعود بارزاني، أهمية حاسمة في صياغة مستقبل الأكراد في سوريا. ولكن، هل تستطيع قسد والمجلس الوطني الكردي تجاوز خلافاتهما لتحقيق توافق داخلي في مواجهة التحديات؟
حيث يشهد الملف الكردي السوري انقساماً بين الإدارة الذاتية المدعومة من قسد، والمجلس الوطني الكردي.
وتاريخياً، أسهم اختلاف الرؤى وعدم الثقة المتبادلة في إفشال محاولات سابقة لتوحيد الصف الكردي.
ومع ذلك، تعود قضية الحوار الكردي إلى الواجهة، بعد زيارة قائد قسد مظلوم عبدي لإقليم كردستان ولقائه مسعود بارزاني.
بارزاني معروف بعلاقاته الجيدة مع تركيا، ويدرك أهمية وحدة الصف الكردي السوري، لضمان حماية حقوق الأكراد في المفاوضات المستقبلية مع دمشق، ما يتطلب تسوية الخلافات حول الإدارة الذاتية ودمج القوات الكردية مثل «بيشمركة روجافا» في إطار مشترك يمكنه مقاومة الضغوط الراهنة.
تركيا تعتبر قسد امتداداً لحزب العمال الكردستاني المصنف كمنظمة إرهابية لدى أنقرة، وتضغط على قسد عبر العمليات العسكرية المباشرة أو دعم الفصائل المسلحة المعارضة لها، والتصعيد الأخير في مناطق مثل منبج وسد تشرين، يعكس محاولات أنقرة لكسر شوكة قسد وتفكيك مشروعها السياسي.
وتجد قسد نفسها مضطرة للتفاوض مع دمشق الجديدة بعد سقوط نظام الأسد، وبدورها تُظهر الحكومة السورية الانتقالية مرونة نسبية تجاه مطالب الأكراد، مثل اللامركزية، ولكنها تصر على دمج قسد في الجيش السوري بشكل فردي وليس ككتلة واحدة، ما يشكل معضلة أساسية أمام قسد التي ترى في ذلك محاولة لإضعاف قوتها وإلغاء مشروعها السياسي.
تشكل وساطة بارزاني محاولة لملء الفراغ الناجم عن احتمالية الانسحاب الأمريكي من سوريا، لكونه يتمتع بعلاقات قوية مع تركيا والولايات المتحدة، واللقاءات الأخيرة بين قادة الأكراد في أربيل تمهد الطريق لحوار مشترك مع دمشق، وفرصة غير مسبوقة لتعزيز الوحدة الكردية.
وبالنظر إلى خبرة بارزاني التاريخية في إدارة العلاقات الكردية الإقليمية وتعقيداتها، فتحركاته الحالية تحاول تحقيق التوازن بين المصالح المتشابكة، سواء مع الحكومة السورية الجديدة أو مع القوى الإقليمية، مثل تركيا. مع الأخذ في الاعتبار معارضة إيران لأي تحالف كردي مع أنقرة والتي قد تعتبره تهديداً لمصالحها في سوريا والعراق.
هناك تحديات معقدة أمام بناء الثقة بين «قسد» ودمشق، ولعل أبرزها في إصرار دمشق على سيادة الدولة المطلقة، بما في ذلك حصرية السلاح والسلطة المركزية، مقابل مطالب الأكراد بضمانات خاصة بحقوقهم السياسية والثقافية والإدارية، في تباينات جوهرية تضع «قسد» أمام معضلة التوفيق بين مطالبها وتوجهات القيادة السورية الجديدة، خاصة مع الضغط الأمريكي والتركي، ما يجعل مسار المفاوضات شائكاً ويحتاج إلى وساطات متوازنة ومدروسة.
وتلقي التحولات الجيوسياسية في المنطقة بظلالها على واقع ومستقبل الأكراد، فالموقف التركي قد يشهد انفتاحاً جزئياً نحو تفاهم مع حزب العمال الكردستاني، وتميل أطراف عربية وغربية لدعم مشروع سياسي يشمل الأقليات السورية ضمن إطار وطني، ما يضع أكراد سوريا في منعطف تاريخي.
والسؤال الأهم يكمن في مدى قدرتهم على استغلال التحولات لتحقيق مكتسبات دائمة، دون الانزلاق في رهانات خاسرة، تعيدهم إلى مربع العزلة والانقسام.
مستقبل الأكراد في سوريا يعتمد بشكل أساسي على تشكيل جبهة كردية موحدة في مواجهة الضغط الثلاثي من أنقرة ودمشق والفصائل المسلحة المدعومة تركياً، ما يتطلب توافق كردي-كردي.
ولابد من استغلال مرونة دمشق في التفاوض للوصول إلى نظام لامركزي قوي، ومقاربة وسطية تحقق الحد الأدنى من طموحات الأكراد، وتحافظ على وحدة الأراضي السورية.
ويمكن لوساطة بارزاني أن تسهم في تهدئة المخاوف التركية من إقامة كيان كردي على حدودها، خاصة إذا تضمنت ترتيبات أمنية تضمن عدم استخدام شمال سوريا كنقطة انطلاق لحزب العمال الكردستاني، في فرصة نادرة لتحقيق تقدم في الملف الكردي السوري، ونجاحها يتطلب تنازلات من جميع الأطراف الكردية، والتزاماً واضحاً من دمشق، ودعماً دولياً وإقليمياً حقيقياً، فبقاء الانقسامات أو التصعيد العسكري لن يخدم الأكراد وسوريا المستقبل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة