ظل الإنكار سمةً ملازمة لنهج ملالي إيران منذ إطلالتهم على مسرح المنطقة والعالم قبل عدة عقود .
في كل منعطف كبير يكشفون تناقضاً بنيوياً مع معتقداتهم ومنطلقاتهم النظرية التي يوزعونها هنا وهناك تحت عناوين براقة حينا، وزائفة أحيانا ؛ وفي كثير من الأحداث التي تتطلب أفعالاً لا أقوالاً تجدهم منغمسين في هرطقة سياسية عفا عليها الزمن ودحضتها الوقائع .
لاتزال "عنتريات" أركان الحكم الإيراني، العسكرية والأمنية والسياسية والبرلمانية، إبان اغتيال قاسم سليماني بداية العام الذي نودعه، ماثلةً في الأذهان، لتأتي الترجمةُ لكل ذلك مقتصرةً على نطاق محدود من خلال استهداف بعض مواقع تديرها القوات الأمريكية على الأراضي العراقية، حفظاً لماء الوجه، رغم أن عملية الاغتيال كانت هجوماً عسكرياً موصوفاً بما تمتع به من مواصفات القتال والمعارك والمواجهات بين طرفين، وقد أحدثت زلزالاً ضخماً داخل مؤسسات الحكم في إيران بكل مفاصلها، وعكست الهزة من جانب، واهتزازاتها الارتدادية من جانب آخر، هشاشةَ بنية هذا النظام وزيفَ ادعاءاته وخواءَ استعراضاته في أكثر من ميدان، ومع ذلك لم تتردد طهران في الإمعان في حالة الإنكار، وراحت تصيغ وتنسج ملاحمَ بطولات صمود، وأناشيدَ وعيد .
مجريات ومسارات الأحداث في إيران على مدار هذا العام تحديدا قدمت البراهين على عقم النظام السياسي من خلال عدة جوانب، منها التدهورُ المتواصل في مفاصل وبنيان وأركان المؤسسة الحاكمة، ومنها التمسكُ بمفردات الخطاب المكرور الذي يحلق في فضاءات النحيب أكثر من ملامسته للواقع كما ينبغي أن يكون وظيفياً، ومنها التوهمُ الذي يعشش في أذهان أقطاب النظام الإيراني بأن الاستعراضات الكلامية وحتى العمليات المحدودة بطابعها الاستعراضي تكفي لإيهام المجتمع الإيراني بوجود سلطة ومؤسسات حكم قادرة على رعاية مصالح شعبها وحمايته من الأخطار الخارجية، إضافة إلى أن تحميلَ الخارج مسؤولية كل ما تعانيه البلاد والعباد يفصح عن عقم مؤسساتي متراكم عبر عقود من الزمن أدى إلى حالة قطيعة حقيقية بينها وبين مجتمعها بسبب ادعاء مزيف ابتكرته تلك المؤسسات قائم على فرضية الخديعة القائلة بأن الأخطار الخارجية المحدقة تقتضي تحشيد الإمكانات لمواجهتها على حساب احتياجات الإنسان الإيراني حتى البسيطة منها .
حادثةُ اغتيال العالم النووي والقائد في الحرس الثوري فخري زاده أماطت اللثام عن حقائق دامغة تدلل على سياسة التلطي وراء الأصابع التي ينتهجها نظام الحكم، فإضافة إلى المواقف المتناقضة داخل الطبقة السياسية الإيرانية التي صدرت سواء كانت تلك الداعية إلى الرد بطريقة أو بأخرى، أو تلك التي لجأت لأسلوب المناورة والقفز إلى الأمام عبر المطالبة بتفعيل بعض مرافق برنامجها النووي، فإن ذلك لم يطمس حقائقَ كثيرة، بينها هشاشةُ البنية الأمنية في البلاد على مستويات متعددة، فحين يعترف قادةُ الأجهزة الأمنية والعسكرية بأن العملية نفذت بأساليب تقنية وتكنولوجية وأجهزة تحكم عن بعد ؛ فإنهم يظهرون تخلفاً وتأخراً في منظومتهم الأمنية والتكنولوجية التي طالما صدعوا رؤوس العالم بتقدمها ومهاراتها وقدراتها، والتي يُفتَرضُ بناء على هذا الادعاء أنها قادرة على اكتشاف مثل هذه الخروقات وإبطالها قبل أي عملية بهذا الحجم، وحين يؤكدون أن زاده محط استهداف منذ سنوات وأنهم يخصصون مواكب حماية خاصة له ؛ فهم بذلك يعترفون بقصور وتقصير أجهزتهم عن حمايته . الحادثة بحد ذاتها، من حيث طريقة التنفيذ والتوقيت والمكان، أسهمت في تعميق الشرخ القائم أساسا بين شرائح المجتمع الإيراني من جهة وبين الطبقة السياسية بمختلف مفاصلها من جهة أخرى، وأعادت إلى دائرة الضوء النقاش حول أولويات الإنسان الإيراني واحتياجاته وضرورة منحه أعلى درجات الاهتمام والرعاية بعد أن تعاظمت معاناته المعيشية وذلك من خلال وضع حد لسياسة الإنكار والاستعراض التي تمارسها السلطات الايرانية، ومواجهة الواقع، وتقديم مصالح المواطن على مشاريع التوسع والغطرسة والهيمنة التي تسعى لتحقيقها طهران .
ستبقى حكايةُ الرد الانتقامي الإيراني لمقتل زاده حبكةً حاضرة في قصص الماكينة الإعلامية والسياسية الإيرانية، وستصبح نغمةً في بازار الاستثمار الإيراني داخلياً وخارجياً بحيث تحقق سلطات طهران أغراضها؛ في الداخل بلجم الأصوات المطالبة بأبسط حقوقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي الخارج حيث تتهيأ لطرح عملية الاغتيال على طاولة المناقصات والمقايضات الدولية . الإرهاصات الأولية تشير إلى أن موقف المجتمع الدولي عموماً، والأوروبي بشكل خاص، الرافض لنهج الابتزاز عبر التلويح بتفعيل جزء من البرنامج النووي ؛ فَعَلَ فعلَه وأفرغ تلك التهديدات من فاعليتها وأهميتها، وطهران تدرك جيدا أهمية وضرورة الموقف الأوروبي بالنسبة لها خاصة وهي تترقب ملامح السياسة الأمريكية ومساراتها وسياقاتها في المنطقة والعالم مع وصول بايدن إلى البيت الأبيض .
ليس من شك في أن حادثة اغتيال شخصية بمواصفات زادة العلمية والعسكرية أضعفت موقف النظام الإيراني داخلياً وخارجياً على عكس ما يدعيه هو ومريدوه، وأسهمت في تقليص خياراته التفاوضية والسياسية، ووضعته في مواجهة واحد من خيارين، فإما الانصياعُ لمطالب المجتمع الدولي وقوانينه الناظمة للعلاقات الدولية والقائمة أساساً على احترام مصالح الآخرين وعدم التدخل في شؤونهم الداخلية واحترام سيادة أوطانهم، وإما مواجهةُ المزيد من العقوبات والضغوطات التي قد لا تقف عند حدود السلوك السياسي والدبلوماسي .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة