إحالة قيادات تاريخية إلى التأديب.. أي مستقبل للعدالة والتنمية بتركيا؟
تعاني تركيا منذ عام 2013 هيمنة مؤسسة سياسية واحدة -حزب العدالة والتنمية- على النسق السياسي كله.
تعاني تركيا منذ العام 2013 هيمنة مؤسسة سياسية واحدة -حزب العدالة والتنمية- على النسق السياسي كله، الأمر الذي يجعل الدينامية السياسية تتحرك وفقاً لرؤية واحدة. أما باقي الفعاليات فتبقى: إما تشتغل في الإطار الذي تحدده المؤسسة السياسية المهيمنة، وإما تبقى تعيش الإقصاء على الهامش السياسي.
إن منطق الهيمنة السياسية الذي تعيشه تركيا منذ ما يقرب من 6 أعوام، يمسك فيها الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه بمفاصل الدولة حتى أصغر شأن فيها، كرس منطق الممارسة السلطوية والإقصاء والاستبعاد السياسي ليس للمعارضة السياسية، وإنما للجناح الإصلاحي داخل العدالة والتنمية المعارض لسياساته، الأمر الذي يطرح إشكالية الثقة بالحزب، ويفتح الباب لتساؤل رئيسي حول مستقبله بعد إحالة عدد من قيادته للتأديب تمهيداً لطردهم.
أثبتت تطورات الأحداث في تركيا بما لا يدع مجالاً للشك أن الانقسامات داخل العدالة والتنمية بلغت مبلغاً خطيراً، وأصبحت العصا الغليظة ترفع في وجه المخالفين والمختلفين من أعضاء وقيادات الحزب.
هيمنة مطلقة
يحتكر حزب العدالة والتنمية السوق السياسية، ويتمتع بشبكات واسعة داخل مؤسسات الدولة وخارجها للدعم والإسناد.
وتميزت عملية إعادة بناء الدولة في السنوات الأخيرة، بهيمنة الحزب على المجتمع، وهذا من خلال السياسات المتعددة التي انتهجتها النخبة الحاكمة في مجال الأمن والثقافة والاقتصاد. وانتقل حزب العدالة والتنمية إلى مرحلة جديدة من السلطوية، تجلت في الإجراءات الاستثنائية التي اتخذتها الحكومة التركية عشية الانقلاب الفاشل في صيف 2016، حيث قامت دون سند قانوني بحملة تطهير، شملت كل القطاعات من التربية إلى الصحافة والمؤسسة العسكرية والقضاء، وصولاً إلى الجامعات والمدارس والهيئات الصحية.
فرضت حكومة الحزب حالة الطوارئ لمدة عامين حتى تم رفعها في 19 يوليو/تموز 2018، لكن البرلمان أقر في 24 يوليو/تموز 2018 تشريعاً أمنيًّا جديداً تحت ذريعة مكافحة الإرهاب، ويمنح القانون سلطات موسعة لحكام الأقاليم ويمدد فترات الاحتجاز ويتيح إقالة الموظفين بالحكومة إذا كان لهم صلات أو اتصالات بالمنظمات التي تعدها الحكومة إرهابية.
على صعيد متصل، أعاد العدالة والتنمية بزعامة أردوغان تفصيل المشهد السياسي على مقاس طموحاته السياسية، وأمسك بمفاصل الدولة حتى أصغر شأن فيها، وبدا ذلك في الإصرار على تمرير التعديلات الدستورية التي حولت البلاد لجهة النظام الرئاسي في أبريل/نيسان 2017، ومنحت الرئيس أردوغان صلاحيات مطلقة.
ولم تطاول هذه التعديلات التفاصيل والتوازنات التي كرسها دستور الثمانينيات فقط، بل غيرت هوية السلطة وجوهر العلاقة بين مؤسسات الدولة. فهي حجمت سلطة البرلمان ودوره لأدنى قدر ممكن، البرلمان الذي كان دائماً أداة لتمثيل كل الكتل المجتمعية والهوياتية التركية في مركز السلطة الفعلية والرمزية.
كما تصاعدت الهيمنة الحزبية بصورة أكبر بفعل المخاوف من الاهتزازات التي حدثت في الانتخابات البلدية، وخسارته عددا من المدن الكبرى لمصلحة المعارضة، لاسيما أن أردوغان كان يعتبر الاستحقاق المحلي استفتاء على قناعة الناخب التركي بالنظام الرئاسي.
الإحالة للتأديب: رفع العصا الغليظة
رفع الرئيس أردوغان العصا الغليظة في مواجهة خصومه داخل العدالة والتنمية، بإحالة عدد من قيادته التاريخية للجنة التأديبية، وفي المقدمة منهم داود أوغلو رئيس الوزراء السابق، تمهيداً لفصلهم.
ويسعى العدالة والتنمية عبر إحالة عدد من أعضائه للتأديب إلى محاصرة التململ المتفاقم بين صفوفه، بالمسارعة للتخلص ممن يخالفون سياسات أردوغان.
كما يريد الرئيس التركي عبر هذا الإجراء ترويع أعضاء الحزب الذين تنتابهم رغبة بالانضمام إلى الحركات السياسية الجديدة التي أعلن عنها علي بابا جان، وداود أوغلو. وثمة تأكيدات بانضمام عدد واسع من نواب العدالة والتنمية إلى الأحزاب الجديدة بعد سأمهم من ممارسة أردوغان.
وراء ما سبق، ينزعج أردوغان من اتجاه القيادات المرشحة للطرد، لاعتماد لغة خشنة تجاه الحزب ورئيسه، فعلى سيبل المثال يتبنى داود أوغلو منذ عودته إلى المشهد السياسي مطلع العام الجاري، خطاباً حادًّا، وهو ما يُعطي انطباعاً باتساع الفجوة مع العدالة والتنمية، وظهر ذلك في توبيخه المتكرر للحزب وللرئيس أردوغان، ففي أبريل/نيسان الماضي أصدر تقييماً نال فيه من أداء الحزب في الاقتراع المحلي الذي جرى في 31 مارس/آذار الماضي.
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي ينتقد فيها رئيس الوزراء السابق داود أوغلو الرئيس أردوغان، ففي أغسطس/آب الماضي أعرب عن انتقاده لعزل رؤساء البلديات المنتخبين، مؤكدا أنه يدمر الديمقراطية ولا يحترم شعبه.
وفي 22 يوليو/تموز الماضي، ظهرت تصريحات صادمة أدلى بها تخص إقالته في مايو/أيار 2016، من منصب رئيس الوزراء، حيث قال عبر قناةٍ على يوتيوب: "كان يجب إبعادي من رئاسة الوزراء من أجل تنفيذ سيناريوهات من قبيل انقلاب 15 يوليو/تموز 2016، وتحقيق نقل تركيا من النظام البرلماني إلى نظام رئاسي مغلوط".
وفي حديث لصحيفة "فاينانشال تايمز"، في 31 يوليو/تموز الماضي اعتبر أحمد داود أوغلو أن الحزب الحاكم مصاب بحالة من اليأس وسط تزايد خلافات داخلية، مضيفا أن "انحراف" الحزب عن قيمه الأساسية يثير استياء عميقا بدءا من صفوفه السفلى ووصولا إلى نخبته العليا.
العدالة والتنمية: مسارات المستقبل
يبدو القلق هو العنوان الأبرز على مستقبل وموقع حزب العدالة والتنمية الذي يشهد أزمة غير مسبوقة ليس على صعيد أدائه الهش، وإنما على مستقبل حرص قيادته وأعضائه على استمرار انتمائهم له.
وثمة سيناريوهات محتملة لواقع ومستقبل العدالة والتنمية بعد تصاعد أزمة الانشقاقات داخله، وتوجه أردوغان نحو فصل قيادات تاريخية شاركته تأسيس الحزب قبل 18 عاماً، في الصدارة منهم منظر الحزب وفيلسوفه أحمد داود أوغلو.
تراجع شعبية الحزب
لم يعد حزب العدالة والتنمية قادرا على قراءة المشهد في الداخل، وكان بارزاً، هنا، الفشل في جذب دعم قطاعات معتبرة من التيارات الإسلامية، وكذلك الإسلاميون في صفوف الأكراد لمصلحته في الانتخابات البلدية التي أجريت في 31 مارس/آذار الماضي.
وتراجعت المسيرات والكتابة على الجدران الداعمة للحزب بسبب الفشل في التحايل على الأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد منذ أكثر من عامين، والعودة إلى عسكرة القضية الكردية التي تدور رحاها منذ العام 1984 وراح ضحيتها أكثر من 40 ألف قتيل.
والأرجح أن الرصيد الشعبي للعدالة والتنمية لا يزال يتعرض للتآكل بسبب رفضه القيام بمراجعة شاملة لأفكاره ومواقفه، واستمراره في ترسيخ الممارسات السلطوية، وهو ما تسبب في زيادة حالة العداء والعنف الداخلي والخارجي في ضوء رفض حلول سلمية لقضايا الأكراد والإرهاب، وتحسن العلاقة مع بعض دول الإقليم، وتهدئة التوتر مع واشنطن والاتحاد الأوروبي، الأمر الذي ساعد على تفاقم التحديات والعجز عن تحقيق الاستقرار.
استمرار الانشقاقات داخل الحزب
أدت سياسات الرئيس أردوغان الذي اعتمد معيار الولاء في تعيين الكوادر الإدارية والأمنية والعسكرية داخل مؤسسات الدولة التركية، إلى تصدع الحزب من الداخل، وكان بارزاً، هنا، حدوث انشقاقات متتالية داخل الحزب، خاصة بعد إحالة أحمد داود أوغلو رئيس الوزراء السابق للتأديب وآخرين تمهيداً لفصلهم.
ويرفض قطاع كبير من أعضاء ونواب العدالة والتنمية توجه أردوغان نحو الفردنية بهدف تثبيت طموحاته السلطوية وغرس مخالبه في جسد المجتمع والإمساك وحده بمفاصل الدولة.
وتمثل الانشقاقات الراهنة داخل العدالة والتنمية تحدياً غير مسبوق لأردوغان، إذ تتزامن الأزمة داخل الحزب مع فشل التحايل على الأزمة الاقتصادية التي تعيشها تركيا، إضافة إلى تراجع مناعة البلاد إقليمياً ودولياً، وكان بارزاً، هنا، تجميد الاتحاد الأوروبي في مارس/آذار الماضي مفاوضات إلحاق أنقرة بالعائلة الأوروبية جنباً إلى جنب توتر العلاقة مع واشنطن بعد مضي الرئيس أردوغان في إتمام صفقة منظومة الدفاع الصاروخية (إس-400) مع موسكو.
حضور نافذ للمعارضة
استفادت أحزاب المعارضة من تراجع العدالة والتنمية في الشارع التركي، وبخاصة حزب الشعب الجمهوري، وحزب الشعوب الديمقراطي.
وإذا كان حزب العدالة والتنمية قادرا على البقاء في صدارة المشهد، فإن ذلك بفضل تجنيده مؤسسات الدولة لمصلحته، وحرمانه المعارضة من منافسة عدالة.
ونجحت المعارضة منذ انتخابات يونيو/حزيران 2015 في تعزيز حضورها في الشارع التركي، وتصاعد هذا الحضور في الاستفتاء على التعديلات الدستورية في أبريل/نيسان 2017، والانتخابات الرئاسية في يونيو/حزيران 2018 وصولاً إلى اقتراع البلديات في مارس/آذار الماضي، حيث تراجعت نسب التصويت التي طالما اعتاد عليها العدالة والتنمية، ليفوز بالكاد في كل هذه الاستحقاقات بنسبة 50,5 في المئة.
في سياق متصل، تمكنت المعارضة من تحقيق نجاحات سياسية معتبرة طوال السنوات التي خلت، منها خلق مساحة مشتركة للتحايل على اختلافاتها السياسية، وبدا ذلك في توافقها على الهوية القومية، وترسيخ حزب الشعوب الديمقراطي لمفهوم المواطنة، وإعلانه أنه يمثل الصوت التركي، وفي القلب منه التيار الكردي.
كما أفرزت وجوها شابة تتمتع بكاريزما وحضور جاذب، مثل صلاح الدين دميرتاش النائب الكردي، وأكرم إمام أوغلو الذي بدا أكثر حيوية وحضوراً ومُمسكاً بالملفات التي يعمل عليها بعد توليه رئاسة بلدية إسطنبول الكبرى.
ويمثل دميرتاش وإمام أوغلو شخصيات شبابية وذات تجربة وشعبية واسعة، يستطيعان أن يكونا منافسين في المستقبل، خصوصاً في الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2023.
تفكك الحزب
استبعاد فرضية تفكك وانهيار العدالة والتنمية لا يمكن استبعادها، حيث انزلق الحزب إلى متاهات الاصطفاف السياسي فضلاً عن اعتماده على شركاء متشددين مثل حزب الحركة القومية.
كما تراجعت الصورة النمطية للحزب في الغرب ودول الإقليم بفعل انحرافه عن الممارسات الديمقراطية، وتبنيه لغة سياسية مفرّقة أكثر منها جامعة ناهيك عن انخراط تركيا السلبي في أزمات الإقليم، وتفاقم حالة العداء بدول المنطقة.
كما خسر الحزب ورئيسه رصيداً وافراً من تعاطف الشارع التركي، ذلك التعاطف الذي مكنه دائماً من الوجود في كل مشهد سياسي مهم، وفي الصدارة أو على الأقل ضمن مكوناته الرئيسة.
تتصاعد أيضا فرص هذا السيناريو مع سيادة حالة من الفوضي والاستقطاب والتوتر السياسي في ظل استمرار أعمال العنف والاحتجاجات في مناطق جنوب شرق تركيا، فضلاً عن التدهور على كافة الأصعدة، وهو الأمر الذي يتيح المجال لتتحول تركيا إلى "دولة مترهلة"، وتنهار تجربة العدالة والتنمية.
ختاماً يمكن القول إن الحصاد المر الذي خلفته سياسات الرئيس أردوغان خلال الأعوام الستة السابقة، وأهم المبادئ القانونية والدستورية التي انتهكها عمداً على نطاق واسع وبصورة ممنهجة، وتأثيراتها الضارة على الأفراد والمؤسسات والمجتمع، توفر بيئة خصبة لانهيار الحزب وتفككه، أو على الأقل تراجع موقعه على الساحة السياسية.
aXA6IDE4LjIyNy4wLjU3IA== جزيرة ام اند امز