مستقبل الحركات التكفيرية في أفريقيا
يعود الحديث عن تنامي الحركات التكفيرية في أفريقيا إلى العديد من العوامل سواء المتعلقة ببنية هذه التنظيمات أو طرق مواجهتها
على الرغم من الجهود الكبيرة التي تم تكريسها لدحر الإرهاب والقضاء على الحركات التكفيرية في أفريقيا، فإن تلك الحركات تمكنت من امتصاص الضربات الموجعة التي تلقتها، وإعادة إنتاج نفسها بأطر جديدة أكثر فاعلية، مكّنتها من الاستمرار والانتشار الإقليمي، في بيئات ظلت لسنوات مديدة تُعرف بالاعتدال والتسامح وقبول الآخر المختلف دينياً، وهو ما يرجح تنامي الظاهرة الإرهابية بالقارة، ويثير تساؤلات عديدة حول مستقبل حركات التكفير، من حيث خطابها السياسي، وهياكلها التنظيمية، ومناطق تمركزها، وطبيعة عملياتها.
يعود الحديث عن احتمالية انتشار الحركات التكفيرية بالقارة إلى عوامل عديدة؛ أهمها: عدم توافق الدول الأفريقية على تعريف جامع مانع للإرهاب، رغم صدور الاتفاقية الأفريقية لمكافحة الإرهاب عام 1999، ليظل الإرهاب مفهوماً مطاطياً، يضيق ويتسع حسب مصالح الدول.
كما أن الدول الأفريقية لا تزال تعمل بمنطق الجزر المنعزلة في مواجهتها للإرهاب. فهي تتخوف من ارتباط الجهود الإقليمية للحرب ضد الإرهاب بالتدخل العسكري فيها، لذا فإنها تقبل نظرياً بحق الاتحاد الأفريقي في التدخل العسكري لمواجهة الإرهاب، لكنها تتمسك عملياً بمفهوم مطلق للسيادة الوطنية، يعرقل إنفاذ معاهدة الدفاع المشترك وعدم الاعتداء، ويؤجل تفعيل القوة الأفريقية الجاهزة للانتشار السريع، ويكرس الاعتماد على القوى الدولية، مثل حلف الناتو في ليبيا، والقوات الفرنسية بمالي وأفريقيا الوسطى، والضربات الجوية الأمريكية، بالرغم من الأدلة التي تؤكد أن الغرب لا يحارب الإرهاب في أفريقيا بقدر ما أنه يصنعه ويستفيد منه.
بالإضافة لذلك، فإن الجهود الأفريقية لمحاربة الإرهاب تمنح الأولوية لتصفية قادة جماعات التكفير، وإجهاض الأنشطة الإرهابية من تفجيرات واغتيالات واختطاف للأشخاص، دون التركيز على اجتثاث الأسباب الجذرية التي تغرس ثقافة العنف، وتشجع الشباب على الانضمام لصفوف الحركات الإرهابية؛ وأهمها غياب الديمقراطية والفساد السياسي، والفقر والبطالة.
وبالتالي فإن المرجح أن تزداد قدرة تلك الحركات على تجنيد الأتباع، وأن يتراجع اتجاهها نحو إجراء المراجعات الفكرية الضرورية للعدول عن الفكر المتطرف، خاصة أن دعم الأجهزة الاستخباراتية الأجنبية يوفر لها معيناً لا ينضب للمال والسلاح والتدريب، ويكسبها القدرة على تجنيد الآلاف من العناصر الجديدة. وهو ما يدفع للقول إن معظم الدعم الذي ستحصل عليه تلك الحركات مستقبلاً سوف يأتيها من الخارج، بعدما تراجع رصيدها بدرجات متفاوتة لدى الرأي العام بالدول الأفريقية، نتيجة لتزايد هجماتها ضد المدنيين منذ عام 2014. كما سيصبح الخارج بمثابة ملاذات آمنة لأغلب قيادات الحركات التكفيرية عند اضطرارها للهروب من معاقلها بالقارة.
أما عن خطابها السياسي، فمن المتوقع أن يظل موجهاً بالأساس إلى النظم السياسية الأفريقية، ليؤكد ضرورة قتالها والإطاحة بها، زعم أنها تمثل العدو القريب، خاصة بعدما ثبت أن تلك الحركات لا تملك رؤية فكرية أو برنامجا عمليا لخوض مواجهة حقيقية ضد الدول الغربية أو إسرائيل. ودليل ذلك أن السواد الأعظم من عملياتها يقع داخل القارة الأفريقية، وأن معظم ضحاياها من الأفارقة.
وبالتالي، فإن حديث تلك الحركات عما يطلقون عليه "قضايا الجهاد" ومواجهة الغرب وتحرير فلسطين ليس إلا نوعا من المزايدة للتغرير بالشباب وتجنيد الأنصار. لكن ذلك لن يمنعها من شن الهجمات من حين لآخر ضد مصالح الدول الغربية بأفريقيا، خاصة الولايات المتحدة، التي تمثل الشيطان الأكبر بالنسبة لها، وكذا فرنسا، باعتبارها الدولة الأكثر انخراطاً في مواجهة تلك الحركات، من خلال قواعدها العسكرية بغرب أفريقيا. ودورها المحوري في دعم القوة الإقليمية الموجهة ضد حركة بوكو حرام.
وقد تنتقل العناصر التكفيرية الأفريقية للقتال خارج القارة، خاصة في سوريا والعراق، نظراً لأن الكثير من الدول الأفريقية لم تعتمد تدابير محددة لمنع مواطنيها من السفر لأجل القتال. كما أنها تفتقر إلى قواعد بيانات خاصة بمواطنيها المنضمين للتنظيمات المتطرفة بالخارج.
وبالنسبة للهياكل التنظيمية للحركات التكفيرية الأفريقية، فمن المتوقع استمرارها على ذات الهشاشة التنظيمية، باستثناء مستوى القيادة العليا، مع تزايد انشقاقاتها الداخلية. وهو ما ينطبق على حركة بوكو حرام، التي تنقسم حالياً إلى فصيلين؛ أولهما هو ولاية غرب أفريقيا، بقيادة أبو مصعب البرناوي، الموالي لـ"داعش" منذ مارس 2015، والآخر هو فصيل أبو بكر شيخو، الذي سبق له مبايعة داعش، قبل أن يُعزل لاحقاً.
وهنا من المرجح أن تزداد المنافسة بين تنظيمي داعش والقاعدة على قيادة الحركات التكفيرية بأفريقيا. لكن الغلبة سوف تكون لصالح داعش. ويعود ذلك لوجود تيار مؤيد لأفكاره بين أوساط الشباب المتطرف، بالإضافة لوفرة الأموال لدى داعش، والضعف النسبي الذي يعتري تنظيم القاعدة منذ اغتيال أسامة بن لادن.
من المتوقع أيضاً أن تقتصر الروابط الأفقية بين الحركات التكفيرية على تبادل بيانات التأييد، وبناء التحالفات التكتيكية، خاصة بالنسبة للتنظيمات الصغيرة، وأهمها التحالف الذي تبلور عام 2017 بين أربع من الحركات المتمركزة بالساحل الأفريقي، تحت اسم "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" بقيادة إياد غالي. لكن تظل هذه النوعية من التحالفات تحالفات ظرفية مؤقتة، تعكس أكثر حالة الضعف التي تكتنف أطرافها، وحاجتها للبقاء على الساحة، خاصة مع صغر حجمها وتعرضها للضربات الأمنية.
أما عن مناطق تمركزها، فتشير الشواهد إلى أن إقليمي الساحل الصحراوي وغرب أفريقيا سيكونان هما المسرح الرئيسي لعمل الحركات التكفيرية بأفريقيا، خاصة في ليبيا وحوض بحيرة تشاد، ومالي وبوركينا فاسو. يلي ذلك إقليم القرن الأفريقي، لا سيما الصومال وكينيا، مع احتمال كبير لبروز معاقل جديدة للإرهاب بقلب أفريقيا الاستوائية، بعدما تم الإعلان عن تأسيس ولاية وسط أفريقيا التابعة لداعش بالكونغو الديمقراطية في أبريل/نيسان المنقضي.
وهنا تشير الإحصاءات إلى أن عدد العمليات الإرهابية التي نفذتها الجماعات التكفيرية بإقليمي الساحل وغرب أفريقيا قد ارتفع من 90 عملية عام 2016 إلى 194 عملية عام 2017 ثم 465 عملية عام 2018. ويكمن تفسير ذلك بأنهما يمثلان موطناً للعديد من الحركات شديدة البأس. وعلى رأسها بوكو حرام، المصنفة كواحدة من أشد الحركات فتكا بالعالم، وكذا بسبب انتشار الحركات التابعة لتنظيم داعش، وأبرزها تنظيم داعش بليبيا، وولاية غرب أفريقيا، وولاية الصحراء الكبرى، بقيادة عدنان أبو الوليد الصحراوي، وولاية القرن الأفريقي، بقيادة عبدالقادر مؤمن، الذي انشق عن حركة الشباب المجاهدين الصومالية.
وفيما يختص بالعناصر المنضوية تحت لواء الحركات التكفيرية، فهناك اتجاه مستقبلي نحو محاكاة تلك الحركات لبوكو حرام، بالتوسع في تجنيد النساء، وإسناد مهام قتالية إليهن، وعدم اقتصار أدوارهن على المهام الدعوية، مع الاتجاه لتجنيد الأطفال، دون سن السادسة عشرة، وتجنيد عناصر تتمتع بصلة قرابة للعناصر المنتمية فعلياً للحركات التكفيرية "التجنيد العائلي"، وذلك توخياً للأمن، وإحكام السيطرة على الأعضاء صغار السن.
غير أن الضربات التي يتلقاها تنظيم داعش بالعراق وسوريا سوف تزيد من تدفق مقاتلي التنظيم إلى القارة الأفريقية، وتجنيدها بصفوف الحركات التكفيرية، خاصة بليبيا، التي تتسم بحدودها المسامية، وسواحلها الطويلة غير الخاضعة للمراقبة، حيث قدرت وزارة الدفاع الأمريكية عدد مقاتلي داعش بليبيا بما يتراوح بين أربعة آلاف وستة آلاف مقاتل.
أما عن مصادر تمويلها، فإن الرقابة التي تفرضها أغلب الحكومات الأفريقية على الحسابات والتحويلات المصرفية، خاصة الواردة للشركات ومنظمات المجتمع المدني، من شأنها أن تدفع حركات الإرهاب للتحرك على محورين؛ أولهما توثيق التحالف مع شبكات الجريمة المنظمة المنخرطة في عمليات غسل الأموال وتهريب السلاح والاتجار بالبشر، أما الآخر فهو التوسع في تنفيذ العمليات محدودة التكلفة، التي لا تتطلب إمكانيات مالية أو مساعدات لوجستية كبيرة، ومن أهمها: الطعن بالسلاح الأبيض، والدهس بالسيارات، خاصة عن طريق "الذئاب المنفردة"، واختراق أجهزة الحاسبات الحكومية وتدمير قواعد البيانات الخاصة بها، وهو ما يعرف بـ"الإرهاب الإلكتروني"، الأمر الذي سيدفع تلك الحركات لتجنيد المهندسين وخبراء الحاسب ضمن صفوفها، والاستعانة بخبرة تنظيم داعش، الذي أسس بالفعل خلية تابعة له تحت اسم "الخلافة السيبرية".
لكن الحركات التكفيرية الأفريقية سوف تستمر خلال السنوات المقبلة في الاعتماد على الأسلحة الخفيفة والمواد المتفجرة بالأساس، في ظل ضعف قدرتها على تطوير الأسلحة النووية أو الكيماوية أو البيولوجية. وهنا فإن البديل المتاح لزيادة قدراتها على التهديد سيكون هو توسيع مسرح العمليات ليشمل جميع الأماكن التي يمكن الوصول إليها، كالأسواق الشعبية، والحافلات، ومحطات الوقود، دون الاقتصار على الأهداف الحيوية، بهدف بث الرعب في كل مكان، بالإضافة لمهاجمة السجون لأجل تحرير الأسرى التابعين لها، خاصة أنها ترفض مطلقاً إجراء أي مفاوضات مع السلطات بالدول التي تنتشر فيها.
وختاماً، فإن تنامي أنشطة الحركات التكفيرية بأفريقيا لا يعني استحالة تحجيم نشاطها، حيث يتطلب الأمر مجموعة من السياسات التي تبدو أهمية إعمالها على التوازي، أهمها:
- منح الأولوية للمسار الوقائي لمواجهة الإرهاب، باعتباره الأكثر فاعلية واستدامة، والأقل تكلفة وخطورة.
- توفير حوافز أمام الشباب للفكاك من شراك حركات الإرهاب، وذلك بالعفو العام عنهم، أو إتاحة فرص العمل أمامهم، ودعم التحاقهم بمؤسسات التعليم.
- تدشين القوة الأفريقية الجاهزة للانتشار السريع، وذلك لقطع الطريق على التدخلات العسكرية الأجنبية المباشرة في شؤون القارة، وقصر التعاون في هذا الشأن على توفير الدعم المالي واللوجيستي والمعلوماتي.
- تشجيع الدول الأفريقية على إصدار تشريعات وطنية تجرم الإرهاب، والتنسيق فيما بينها، عبر تبادل المعلومات، وتنظيم تسليم الإرهابيين، وتقنين إجراءات محاكمتهم.
- تفعيل دور المركز الأفريقي لبحوث الإرهاب، والصندوق الأفريقي لمكافحة الإرهاب.
- بناء القدرات الأفريقية حول مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.