بوكو حرام.. تنظيم "منقسم" يكوي نيجيريا بنار الإرهاب
القضاء على بوكو حرام ليس أمرا مستحيلا في ظل الانقسام التنظيمي الذي يعتريها، حيث تشهد الحركة صراعا على قيادتها.
من جديد، عادت أنباء حركة بوكو حرام النيجيرية لصدارة المشهد الإعلامي بالتزامن مع الذكرى السادسة عشرة لتأسيسها، بعدما شنت سلسلة من الهجمات الإرهابية التي طالت الداخل النيجيري ودول الجوار.
ولعل هذه العودة تدفعنا إلى تقييم أداء "بوكو حرام"، وبيان مدى تطورها، على مستوى الفكر والتنظيم والممارسة، وتناول موقف الرأي العام النيجيري منها، ورصد الآليات التي تم الاعتماد عليها في مواجهتها، وتقييم مدى نجاعتها في إلحاق الهزيمة بالحركة وتحجيم الفكر المتطرف، في بلد عرف تاريخياً بكونه حاضنة للإسلام الصوفي المعتدل.
تأسست بوكو حرام عام 2003 تحت اسم جماعة "أهل السنة للدعوة والجهاد"، على يد محمد يوسف، انطلاقاً من أفكار ابن تيمية والمودودي وسيد قطب، حيث كان مؤسسها يؤمن بجاهلية المجتمع، ويكفر الدولة، ويصف حكامها بالعمالة والردة، ويرى أنه لا يمكن مواجهتهم إلا بالسلاح فحسب.
كما تعامل "يوسف" مع الدول الغربية باعتبارها دولاً كافرة، ما جعله يرفض كل منظومة القيم المرتبطة بها، خاصة التعليم، ومن هنا جاء الاسم الإعلامي للحركة (بوكو حرام)، التي تعني باللغة الهوساوية (التعليم الغربي حرام).
الحركة أكدت أن أعداءها هم الحكومة النيجيرية وغير المسلمين والوشاة بها من المسلمين؛ لذا فقد ركزت هجماتها في البداية على ضرب المنشآت الحيوية للدولة والكنائس والبنوك والمدارس والأهداف الغربية، بالإضافة لهدم أضرحة الأولياء، وحظر الاحتفال بالمناسبات الدينية، التي تنظمها المؤسسات الدينية الرسمية والطرق الصوفية.
وفي عام 2009 ذاع صيت "بوكو حرام"، بعد احتدام المواجهات بينها وبين الحكومة النيجيرية، وهي المواجهات التي أفضت لمقتل مؤسسها محمد يوسف، وانتقال قيادة الحركة لأبي بكر شيخو.
جدد شيخو البيعة لتنظيم القاعدة، وأعاد تنظيم صفوف الحركة بتجنيد زهاء 6 آلاف من أبناء نيجيريا ومن الأجانب، الذين ينتمون للشريحة العمرية من 16 إلى 25 عاماً. وكانت ضغوط الفقر والبطالة والظلم الاجتماعي، ومشاعر الإحباط المتراكمة لدى الشباب، وضحالة الفكر الديني، وضعف السيطرة على الحدود من أبرز العوامل التي ساعدت الحركة على البقاء والانتشار.
كان عام 2014 / 2015 علامة فارقة بالنسبة لبوكو حرام، بعدما اتسع تعريفها لأعدائها، ليشمل المسلمين الذين لم يستجيبوا لدعوتها بحظر التعامل مع مؤسسات التعليم الغربية، ودول الجوار الداعمة للحكومة النيجيرية (الكاميرون والنيجر وتشاد).
كما أدخلت الحركة تغييرات نوعية على عملياتها، أهمها الهجمات الانتحارية، واحتجاز الرهائن من الفتيات والشباب، والانتقال من أساليب الكر والفر إلى احتلال القرى وحرقها، وإنشاء إمارات إسلامية.
بايعت بوكو حرام تنظيم داعش الإرهابي في العراق والشام، بعدما أفل نجم تنظيم القاعدة، وأطلقت اسم "ولاية غرب أفريقيا" على مناطق سيطرتها، التي بلغت في يناير 2015 نحو 20 ألف كم2، بما يعادل مساحة دولة بحجم بلجيكا. كما طالت هجماتها دول الجوار المتاخمة لولايات شمال شرق نيجيريا الثلاث (بورنو، يوبي، أداماوا)، ليتم تصنيف الحركة باعتبارها أحد أكثر التنظيمات فتكا في العالم.
سياسة العصا والجزرة
في المقابل، واجهت الحكومة النيجيرية الحركة بأساليب تمزج بين العصا والجزرة، فسعت بداية للتفاوض معها، وعرضت العفو العام عن مقاتليها، ثم شنت حرباً إعلامية ضدها، لكشف ما ترتكبه من ممارسات مروعة للمواطنين، ولا علاقة لها بإحياء القيم الإسلامية.
واستعانت بهيئة علماء المسلمين، والجماعات الصوفية، والحركات الدينية المعتدلة، وأهمها جماعة "مسلمون ضد الإرهاب"، وذلك لإلقاء المحاضرات وإصدار الكتيبات وعقد المناظرات، التي تدحض أفكار الحركة.
ولجأت الحكومة النيجيرية أيضاً لتكثيف الحملات العسكرية ضد الحركة، وتفكيك بنيتها التنظيمية، وترحيل المهاجرين غير الشرعيين، وشاركت في قوة عسكرية إقليمية لمواجهتها في يناير/كانون الثاني 2015، بالتعاون مع دول الجوار، وبدعم عسكري من فرنسا، التي أضحت مستعمراتها السابقة في مرمى نيران بوكو حرام. وحظيت معظم تلك الإجراءات بتأييد المواطنين الذين رأوا في الحركة تهديداً خطيراً لأرواحهم وممتلكاتهم ولمصالح البلاد.
عند تقييم السياسات والآليات سالفة الذكر، نجد أن الاعتماد الأكبر كان على الآلية الأمنية، وشن الحملات الإعلامية، التي أديرت بطريقة أسهمت في اكتساب بوكو حرام مزيداً من الشهرة، حتى إنها أكدت أن وصمها بالإرهاب يعد وساماً للشرف، كما أن الاستعانة بالجماعات الصوفية في مواجهتها لم تثبت جدواها، خاصة أنها ليست مؤهلة لخوض المعارك السياسية.
بالإضافة لذلك، فإن الإفراط في الاعتماد على الآليات الأمنية أدخل نيجيريا دائرة مفرغة من العنف والعنف المضاد، وأرهق ميزانية الدولة، وأدى لانخفاض الروح المعنوية للشعب وللقوات المسلحة، خاصة أن جماعات الإرهاب هي خصم عنيد ليس لديه ما يخسره.
وأعطى ذلك الفرصة لبعض الأطراف الخارجية للضغط على الحكومة النيجيرية؛ إذ اتهمتها واشنطن بالاعتداء على المدنيين، وتسويق المخاوف من الإرهاب كذريعة لتقييد الحريات، وأكدت منظمة هيومن رايتس ووتش أن ممارسات بوكو حرام ترقى لمستوى الجرائم ضد الإنسانية.
ودأبت بوكو حرام على مقابلة الإجراءات الحكومية ضدها برسائل تحذيرية، تحمل قدراً جلياً من الاستخفاف؛ إذ يعود شعور الاطمئنان هذا لدى الحركة إلى توافر مصادر التمويل، وأهمها الفدى التي يتم تحصيلها مقابل إطلاق سراح الرهائن، ونهب البنوك، وعوائد تهريب البضائع والسلاح والمخدرات، ورسوم الحماية، والتبرعات التي تقدم بأسماء وهمية لمنظمات خيرية.
بالإضافة لتهريب السلاح إليها من روسيا ودول شرق أوروبا، والذي يصل للحركة عبر دروب الصحراء وبحيرة تشاد، وتخفي إرهابيي الحركة بالمناطق النائية وسط الجماعات الإثنية، واستشراء الفساد وحالات الفرار داخل الجيش النيجيري، ونقص جاهزية القوة الإقليمية، وتخاذل المجتمع الدولي.
واكتفت الدول الغربية بتصريحات تعرب فيها عن التعاطف مع الشعب النيجيري، وإرسال الفرق العسكرية لتدريب قواتها، وتقديم الدعم اللوجيستي، رافضة التدخل العسكري المباشر في هذا الصراع المعقد؛ بل إن الولايات المتحدة التي تتزعم الحرب العالمية ضد الإرهاب لم تتورع عن استخدام بوكو حرام كورقة رابحة للضغط على نيجيريا ودول الساحل الأفريقي، لأجل تقديم التنازلات فيما يتعلق بالقرارات السياسية والمبادلات الاقتصادية، وتوفير التسهيلات اللازمة للقيادة الأمريكية الجديدة في أفريقيا (أفريكوم)، خاصة أن آبار النفط التي تديرها الشركات الأمريكية تقع بدلتا النيجر جنوب البلاد، بعيداً عن مناطق تمركز بوكو حرام.
فيما اكتفت بريطانيا بالدعم اللوجيستي المحدود، بينما غابت الصين كلية عن المشهد، رغم كونها من أهم المستثمرين بقطاع النفط في نيجيريا.
المسار الوقائي لمواجهة الإرهاب
في هذا السياق، كشفت الإحصاءات الرسمية للحكومة النيجيرية عن أن بوكو حرام تمكنت من تنفيذ نحو 2445 هجوماً داخل وخارج نيجيريا خلال المدة من 2009 حتى 2017، وأن نيجيريا كانت أكثر المتضررين منها، تليها الكاميرون والنيجر وتشاد.
وتحدثت تلك الإحصائيات عن أن "بوكو حرام" أثرت بالسلب في حياة 14.8 مليون شخص، وأن هجماتها أحدثت أزمة إنسانية حادة بمناطق انتشارها، فأدت لوفاة 28 ألف من المواطنين، وخلفت 2.3 مليون لاجئ، و22 ألف مفقود. ودمرت آلاف المنازل، وزهاء 1400 مدرسة. وأحدثت خسائر مالية مباشرة تتجاوز 9 مليارات دولار، وشردت أكثر من 513 ألفا من مواطني دول الجوار (أغلبهم في الكاميرون).
وعلى الرغم من ذلك، فإن القضاء على الحركة ليس أمراً مستحيلاً، في ظل الانقسام التنظيمي الذي يعتريها، حيث تشهد صراعاً على قيادتها بين أبي بكر شيخو وعبدالرحمن البرناوي ابن مؤسسها محمد يوسف، الذي نصبه تنظيم داعش إماماً للحركة في أغسطس 2016، لكن الأمر يتطلب منح الأولوية للمسار الوقائي لمواجهة الإرهاب، باعتباره الأكثر فاعلية واستدامة، والأقل تكلفة وخطورة، مع تطبيق حزمة من الإجراءات التي يجب اتخاذها على التوازي.
ومن أهم تلك الإجراءات: تغيير معطيات البيئة الداعمة للإرهاب بنيجيريا، وذلك بتبني برامج للقضاء على الفقر والفساد السياسي، وضمان العدل في توزيع موارد الدولة، وتطوير الخطاب الديني، عبر تبني خطاب عقلاني رشيد، يواكب متغيرات العصر الحديث، وإتاحة الفرصة أمام الشباب للمشاركة السياسية المشروعة، من خلال الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني.
وتبدو أهمية تجفيف مصادر الدعم المالي والتسليحي للحركة، وذلك بإحكام السيطرة على الحدود، وهو أمر مهم لنيجيريا التي تمتد حدودها مع دول الجوار لنحو 4047 كم، بالإضافة لمراقبة الحسابات المصرفية، وإنشاء قاعدة بيانات "قائمة سوداء"، يتم تحديثها باستمرار.
وتضم أسماء الشركات ورجال الأعمال ومنظمات المجتمع المدني الضالعين في علاقات تجارية ومالية غير مشروعة مع بوكو حرام، وتوقيع بروتوكول لضمان تبادل المعلومات، وتصنيف جماعات الإرهاب، بحسب مرجعيتها، وتسليم المجرمين، وتنظيم المحاكمات الخاصة بجرائم الإرهاب.