صراع العروش.. عالم ليس لنا لكنه يشبهنا.. ولهذه الأسباب نحبه
لن تتأخر فصول حكاية الموسم الثامن بالكشف عن تفاصيلها حلقة بعد أخرى، وحتى نهاية الموسم.
ثماني سنوات، سبعة مواسم بـ"67 "حلقة تم بثها في أكثر من 170 دولة، بدت كفيلة بأن تشغل العالم بانتظار الموسم الثامن من "صراع العروش" وفك ألغاز نهاية اللعبة المرتقبة، التي كثر التخمين حولها، كما كثرت تلميحات المشاركين فيها، من دون أن يجزم أحد منهم بحقيقة تفاصيلها.
ورغم أننا خلال الأيام الأخيرة سمعنا كثيراً من النظريات التي ترجح شخصية دون سواها بوصفها الأوفر حظا للبقاء على قيد الحياة حتى نهاية الموسم الثامن، بما فيها تلك التي قدمتها خوارزميات الذكاء الاصطناعي لطلاب في جامعة ميونيخ التقنية، إلا أن ما من إجابة حاسمة بعد، عن السؤال المطروح: "من سيخرج حياً من اللعبة ليجلس على العرش الحديدي، من سيموت من دون ينال العرش..؟".
بكل الأحوال لن تتأخر فصول حكاية الموسم الثامن بالكشف عن تفاصيلها حلقة بعد أخرى، وحتى نهاية الموسم، ومعرفة اسم الشخص الذي سيجلس على العرش الحديدي، سيكون صعود وهبوط بورصة الاحتمالات في "صراع العروش "والتخمينات الخاصة بـمصائر أبطاله حجر الأساس في لعبة التشويق التي يجيدها صانعو العمل، وكانت واحدة من أسباب نجاح عملهم في استقطاب 2.2 مليون مشاهد لأولى حلقات موسمه الأول، ومضاعفة هذا الرقم بعد ست سنوات ليصل إلى 16.5 مليون مشاهد للحلقة الأخيرة من موسمه السابع.
بكل الأحوال لندع جانباً البحث في لهفة عشاق "صراع العروش" ومحاولة التكهن معهم بمسار الحكاية ومصائر أبطالها، ولنبحث في سر هذا العشق وجماهيرية العمل إلى حد بدا ترقب موسمه الثامن أشبه بترقب مونديال كأس العالم لكرة القدم، وربما أكثر بقليل.
من حيث المبدأ يمكن رد هذا الاحتفاء الجماهيري المجنون بـ"صراع العروش" إلى أسباب عديدة تتعلق بالمضمون (رغم حجم العنف فيه) والشكل الفني والأداء المتكامل لفريق العمل أمام الكاميرا وخلفها.
إلا أن السبب الأكبر في جاذبية العمل وقدرته على استقطاب هذا الكم الكبير من المتابعة، يعود برأينا إلى أمرين اثنين لهما علاقة مباشرة بسيكولوجية المشاهدة، وأولهما هو لعبة التشويق التي نجح صانعو العمل في استدراجنا إليها، إذ رغم أن "صراع العروش" التزم بحبكة درامية مدروسة بلا ارتجالات أو انعطافات مفتعلة، إلا أنه استطاع إيجاد نوع من التوزان بين الاستجابة لتوقعات الجمهور المبنية بالأساس على ترتيب منطقي لتعاقب أحداثه والربط بينها، وبين مباغتة الجمهور بسيناريوهات أبعد ما تكون عن توقعاتهم.
وعلى هذا النحو ظل المشاهد أسير ترقب أحداث حلقات العمل، فهو يستمتع من ناحية بصدق توقعاته، ويبقى متشوقاً لمعرفة ما يخبأه أي انعطاف غير متوقع في مسار الحبكة من مفاجآت وتطورات تطرأ على الشخصيات من ناحية أخرى، ووفق هذه القاعدة ربما يمكننا التخمين من دون أن نجزم بنتائج المعركة المرتقبة بين "ذا نايت كينج" وجيشه من جهة وتحالف "داينيريس تارجارين" و"جون سنو" من جهة أخرى، وربما نرجح أن ينجح الاثنان في النجاة من غدر "كيرسي لانيستر" وخططها لتدميرهما عبر هذه المعركة، ولكننا سنظل بشوق، على سبيل المثال، لنعرف كيف ستتغير علاقتهما عندما تنكشف حقيقة أن جون هو الوريث الحقيقي للعرش الحديدي؟
تلك هي لعبة الدراما الحقيقة حين توفر للمشاهد مساحة تفاعل حقيقية مع ما يعتمل في خياله من دوافع ومشاعر، وتثير فضوله لمزيد من المعرفة في آن واحد.
أما الأمر الثاني الذي يقف خلف سبب جاذبية العمل الأساسية فهي قدرة "صراع العروش" على تشخيص عالم ليس لنا، لكنه يشبهنا، حتى بات حال حكايته معنا حال المثل الشعبي الشهير "إياك أعني واسمعي يا جارة".
لطالما ربطنا قوة الدراما وقربها منا بطبيعة علاقتها مع الواقع، وبقدرة صانعيها على منح المشاهد مفاتيح فهم محتوى أعمالهم المتخيلة من البوابة التي تفضي بهم إلى الواقع، وفي ذلك تماهٍ مع الدور الذي ينشده علماء النفس عادة من سرد القصص، بوصفه "وسيلة لفهم العالم" من حولنا و"مكوِّناً أساسياً من مكونات الطريقة التي يعمل بها العقل"، و"فهم أنفسنا"، كما يؤكد أستاذ علم النفس بجامعة نورث ويسترن "دان ماك أدامز ".
إدراك الدور الذي تؤديه الأشكال السردية في فهم العالم حولنا، ومنها بطبيعة الحال تلك الموجودة في الدراما، يجعلنا ندرك واحداً من مستويات التلقي الجماهيري، غير المباشرة، لـ"صراع العروش" التي تجعلنا نغوص في اللعبة كجزء منها، فـالعنف والوحشية والقتل والأساليب المكيافيلية في الصراع على السلطة التي غالباً ما تفسر كل ذلك العنف والقتل استناداً إلى نظريتها في "الغاية تبرر الوسيلة"... كل ذلك يجعل من الاستحالة فصل وقائع "صراع العروش" عن الواقع حولنا، ولاسيما أن كثيراً من حكايته تتغلل في العالم الحقيقي حولنا، وإن اختلف تفسيرها باختلاف مواقع المشاهدين وتجاربهم الحياتية، ألا نرى في كل يوم ظلالا لكل من "نايت كينغ" و"كيرسي لانيستر" وأمراء الحرب في نشرات الأخبار..؟! ألا تحيلنا حوارات هؤلاء ومخططاتهم لنيل السلطة إلى إسقاطات واقعية نشهدها اليوم...؟!
إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن المشاهد عادة ما يتبع عاطفته ورغباته الدفينة وعقد نقصه أو بمعنى أدق ما يتمنى أن يكون عليه في الأعمال الدرامية التي يتهافت لرؤيتها، نجد أن شخصيات مثل "جون سنو" و"نيد ستارك" في "صراع العروش" تشبع لديه تلك الرغبات الدفينة بما تجسده من قيم البطولة الفروسية والأخلاق، وهو ما يجعلنا إليها أقرب، لذلك لم يكن غريباً، على سبيل المثال، أن يعيد صانعو "صراع العروش" جون سنو إلى الحياة في الموسم السادس، بل وكان ذكاء منهم أن يكون هذا الفتى اللقيط هو في حقيقة الأمر الوريث الشرعي للعرش الحديدي.. وبلا شك سيسعدنا بلوغه هذا العرش في نهاية الموسم الثامن، وانتصار القيم التي يمثلها على كل تلك الوحشية التي أبداها أعداؤه طيلة المواسم السابقة.
حسناً.. لنعيد الآن ترتيب الصورة في السبب الأساسي لجاذبية "صراع العروش"، وفق ما أفضنا في شرحه أعلاه:
ببساطة يصنع "صراع العروش" عالماً متخيلاً، نحسه، وفقاً لهويته البصرية، أنه أقرب إلى "القرون الوسطى"، لكنه بالواقع أشبه ما يكون بعالمنا اليوم، ثم يدفعنا للانخراط في لعبة هذا العالم، فيمنحنا مفاتيح التحكم بأقداره وتحقيق أمنياتنا فيه، حين يلعب بحكايته في مساحة المأمول منا، ويرفع درجة ثقتنا بأنفسنا حين يصادق على بعض من توقعاتنا لمصائر أبطالها وخياراتهم، ولكنه لا يلبث أن يذكرنا بأن اللعبة أكبر مما نتوقع حين يحمل لنا مفاجآت وأحداثا تقلب الطاولة وتجبرنا على إعادة حساباتنا.