روسيا تعد المزود الأول للغاز الطبيعي لأوروبا حيث بلغت الصادرات الروسية لأوروبا في العام الماضي 150 مليار متر مكعب عن طريق الأنابيب
ظهرت الخلافات جليّة بين ألمانيا والولايات المتحدة فيما يتعلق بحُريَّة التجارة الدولية عند انعقاد قمة العشرين في هامبورغ بألمانيا خلال الشهر الماضي، ويضاف الآن خلاف جديد بعد إقرار الكونجرس عقوبات جديدة على روسيا من شأنها الإضرار بالمصالح الأوروبية، وبشكل خاص المصالح الألمانية، فقد نقلت وكالة "رويترز" للأنباء عن وزيرة الاقتصاد الألمانية قولها يوم الاثنين الماضي إن عقوبات جديدة اقترح مشرعون أمريكيون فرضها على روسيا، ومن شأنها الإضرار بشركات أوروبية، تمثل انتهاكًا للقانون الدولي وينبغي للمفوضية الأوروبية أن تدرس اتخاذ إجراءات مضادة، وأضافت "بالطبع نحن لا نريد حربًا تجارية ولكن يجب على المفوضية الأوروبية النظر الآن في التدابير المضادة"، وقالت الحكومة الألمانية وكبار رجال الأعمال إن العقوبات الجديدة التي أقرّها مجلس النواب الأمريكي هذا الشهر من شأنها منْع شركات ألمانية من العمل في مشاريع لمد خطوط أنابيب تعد ضرورية لأمن الطاقة في ألمانيا.
الجدير بالذكر أن روسيا تعد المزود الأول للغاز الطبيعي للسوق الأوروبي، حيث بلغت الصادرات الروسية لأوروبا في العام الماضي ما يزيد على 150 مليار م3 عن طريق الأنابيب، وهو ما يزيد على 40% من جملة واردات أوروبا عبر الأنابيب، ونحو ثلث إجمالي وارداتها من الغاز.
وكان هاجس تنويع الإمدادات قويًا لدى أوروبا بعد تخفيض شركة "غازبروم" الروسية بشكل مؤقت الإمدادات إلى أوكرانيا، مع إعادة روسيا التفاوض على أسعار التصدير إلى أوكرانيا في شتاء عام 2006م، حينما كان الطلب في كل من أوكرانيا وأوروبا الغربية مرتفعًا، وتكرر هذا الأمر في يناير 2009، وبينما كان الدافع الرئيس هو الرغبة في زيادة الأسعار في أوكرانيا لتصبح قريبةً من الأسعار في أوروبا، فإن هذه الخطوة تم تفسيرها على نحو واسع كمحاولة للتدخل في السياسة الأوكرانية، إضافة إلى ذلك فإن هذه القضية رفعت بشكل كبير الاهتمام بشأن أمن الطاقة بين المستهلكين الأوروبيين، وتفاقم الوضع بالطبع مع ضم شبه جزيرة القرم لروسيا في مارس 2014.
وفي حين سعت أوروبا إلى تخفيف اعتمادها على روسيا بمحاولة الحصول على الغاز الطبيعي من مصادر أخرى، وبخاصة من بعض دول بحر قزوين، فقد حاولت روسيا في الوقت ذاته بناء خطوط أنابيب تلتف على أوكرانيا، بحيث لا يمكنها -مع استمرار تدهور العلاقات بين البلدين- ممارسة ما تراه روسيا ابتزازًا لها، فيما يتعلق بصادراتها من الغاز الطبيعي لأوروبا.
وقد طرحت روسيا فكرة إنشاء خطوط أنابيب بديلة، وكان المقترح في البداية هو إنشاء خطين: واحد في الشمال يسمى "السيل الشمالي"، وهو خط بحري يمر تحت بحر البلطيق، ويمر بالتالي بدول البلطيق (لاتفيا-إستونيا-ليتوانيا) وفنلندا وبولندا، وكلها دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي، حتى يصل إلى وجهته النهائية في ألمانيا. والخط عبارة عن أنبوبين، طاقة كل منهما 27.5 مليار م3، أي أن الخط ينقل 55 مليار م3 سنويًا، وقد بدأ الخط العمل بالفعل بطاقته القصوى منذ عام 2012، وقلل الخط نسبة الغاز الطبيعي الروسي المتجهة إلى أوروبا عبر أوكرانيا إلى 50% فقط في عام 2013 بدلًا من 80% قبل إقامته.
أما الخط الثاني فكان "السيل الجنوبي" الذي اقترحت موسكو أن يمر بتركيا، ثم يصل إلى شرق أوروبا والنمسا، لكن الخط أُلغي، واقتُرح بدلًا منه خط أنابيب "السيل التركي" الذي عقدت روسيا وتركيا اتفاقًا بشأنه في أكتوبر 2016، ويقضي مشروع "السيل التركي" بإقامة أنبوبين للغاز يمران تحت البحر الأسود، وتصل طاقة كل أنبوب إلى 15.75 مليار م3 سنويًا، وبحيث يخصص الأنبوب الأول لاستخدام تركيا، بينما يستخدم الثاني في دول الاتحاد الأوروبي، ويقل هذا كثيرًا عن التصميم الأولي للخط الذي كان يقضي بنقل 63 مليار م3 سنويًا، حيث كان من المتوقع الانتهاء من وصلة أنابيب الغاز إلى تركيا بطاقة 16 مليار متر مكعب في ديسمبر 2016، وهو ما لم يحدث. كما كان من المخطط أن يذهب 47 مليار متر مكعب لاحقًا إلى محطة لتجميع الغاز على الحدود اليونانية-التركية ليشحن بعدها إلى الزبائن الأوروبيين.
وقد شرع في إقامة الخط الجديد ذي الطاقة الأقل تحت البحر الأسود في شهر مايو الماضي، وينتظر الانتهاء منه في العام القادم، ولم تعقد حتى الآن سوى اتفاقات بين الشركة الروسية الموردة وبين كل من المجر وبلغاريا في شهر يوليو الحالي بهدف الاستفادة من الأنبوب المتجه لأوروبا.
ومع تأجيل خط "السيل التركي" في نسخته الأولى نتيجة لخلافات تركية / روسية وعدم حماس أوروبي ظاهر، تم التعجيل بتدشين مشروع بديل هو "السيل الشمالي 2" في سبتمبر 2015 لرفع الإمدادات من الغاز الطبيعي الروسي لسوق الاتحاد الأوروبي، ويقوم المشروع على إنشاء أنبوبين جديدين في المياه العميقة ينقلان الغاز الروسي إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق، وبطاقة سنوية تبلغ 55 مليار م3 أيضًا، أي أنه نسخة مطابقة لخط "السيل الشمالي 1". وكما هو ملاحظ فإن طاقة الخط الجديد تزيد عما كان مقترحًا لخط "السيل التركي" في نسخته الأولى من نقل 43 م3 سنويًا، ناهيك عن الكمية المقررة في النسخة الجديدة والتي لا تزيد على 15.75 مليار م3. ومن المنتظر الانتهاء من إنشاء خط "السيل الشمالي 2" في الفصل الأخير من عام 2019.
ومع إنشاء "السيل الشمالي 2" لم يعد أمر إنشاء خط "السيل التركي" ملحًا بالنسبة لأوروبا الموحدة وبخاصة دول غرب وشمال أوروبا، علاوة على المصالح المشتركة التي يتضمنها المشروع ولم تكن توجد في "السيل الجنوبي" أو "السيل التركي". إذ يساوي تقسيم الحصص في المشروع بين مصالح كل من الاتحاد الأوروبي (أو بمعنى أدق شركات دول رئيسية في الاتحاد الأوروبي) وروسيا بحصة 50% لكل طرف، حيث تبلغ حصة شركة غازبروم الروسية 50%، بينما تبلغ الحصة 10% لخمس شركات من شركات دول الاتحاد الأوروبي هي إينجي الفرنسية، و"إي أون" الألمانية" و"وينتر شال" الألمانية أيضًا، و"أو. إم. في" النمساوية" و"شل" الهولندية / البريطانية.
هذا الخط الأخير هو موضع الخلاف الرئيسي الآن بين ألمانيا والولايات المتحدة، إذ يعيق فرض العقوبات الأمريكية الأخيرة على روسيا المضي في إنجاز المشروع، ومع وجود تهديد لمصالح أربعة أطراف في أوروبا الموحدة (ألمانيا وفرنسا والنمسا وهولندا) كان من الطبيعي أن تتطلع ألمانيا إلى حشد باقي شركائها في الاتحاد الأوروبي للرد الجماعي على هذه الإجراءات الأمريكية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة