شابة فلسطينية تتحدى إعاقتها البصرية بالعمل في الاستقبال الفندقي
نداء جندية (29 عاماً) أخذت الحياة غلابا، لتنتصر على الجهل بالعلم، وعلى نظرة المجتمع للمعاقين بالإرادة، وعلى العقبات بالتحدي.
لا بصر في العينين ولكن البصيرة تأخذها إلى المبتغى، كل ما حولها مظلمٌ ولكن في داخلها بياض يتسع لكل عتمة؛ لذا لم تستسلم للإعاقة البصرية، ولم تركن بنفسها في الهوامش.
نداء جندية (29 عاماً) أخذت الحياة غلابا، لتنتصر على الجهل بالعلم، وعلى نظرة المجتمع للمعاقين بالإرادة، وعلى العقبات بالتحدي.
ولدت نداء دون بصر، وتربت في أجواء مشحونة بالعاطفة والاستعطاف، وفي بلد محاصر من جميع جهاته اسمه قطاع غزة، بلد محشو بالأزمات، ومستشفياته بقاء المتروك على الاضطرار، ورغم كل هذا شقت طريقها بكل إصرار لتؤكد أن الإعاقة ليست تابوت الطموح، بل دافع وحافز لإثبات الذات.
وقالت لـ"العين الإخبارية": "ولدت كفيفة لسبب وراثي في العائلة، حيث يوجد بعض أفرادها من ذوي الإعاقة البصرية، ورغم ذلك اجتهدت منذ وصولي سن البلوغ إلى مجابهة الحياة بلونها الواحد، فقررت بمساندة ودعم أسرتي وخاصة والدتي دخول رياض الأطفال تحت إشراف أحد المراكز التعليمية التابعة لوكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين".
وأضافت: "عشت المرحلة الابتدائية التي واجهت فيها صعوبات كثيرة أثناء التعلم، لعدم وجود وسائل خاصة لتعليم المكفوفين، ورفض مديرة المدرسة استقبالي في مرحلة من مراحل الدراسة، الأمر الذي اضطر أسرتي إلى وضعي في مدرسة خاصة، ومن ثم درست المرحلة الإعدادية فالثانوية من خلال برامج الدمج تمهيداً للمرحلة الجامعية".
وواصلت نداء حديثها: "الله وفقني واستكملت تعليمي وحصلت على شهادة الثانوية العامة، وقررت أن التحق بالجامعة تخصص (آي تي) هندسة كمبيوتر، ولكن الجامعات غير قادرة على استقبال ذوي الإعاقة البصرية في هذا التخصص، فدرست دبلوم تأهيل مجتمعي في كلية العلوم التطبيقية، لوجود مركز متخصص بذوي الإعاقة البصرية، وفي هذه المرحلة نجحت ببناء علاقات عامة واسعة ساعدتني في ما بعد لاستكمال مسيرة الحياة".
وعن الدورات التأهيلية، قالت نداء: "خضت الكثير من الدورات التدريبية والتأهيل العلمي، حتى وصلت إلى عملي التطوعي في فندق (المشتل) وهو من أكبر فنادق قطاع غزة، وتم قبولي كموظفة استقبال (ريسبشن)، ولا زلت أخوض هذه التجربة الرائعة في حياتي، التي عززت ثقتي بنفسي وبالناس الذين يساعدونني، والذين يتفهمون احتياجاتي، كما كان الاختلاط أوسع بمحيطي، واكتشفت أن إعاقتي ليست العقبة لطالما هناك إرادة صلبة".
وأضافت: "اليوم أحقق نفسي كإنسانة مؤثرة في المجتمع، خاصة أنني عملت في أكثر من مجال منها كطابعة على الكمبيوتر بنظام العقود المؤقتة، وعملت ضمن مشروع للإغاثة الإسلامية خاص بذوي الاحتياجات الخاصة، كما كنت ضمن فريق تدريبي في مركز القطان للطفل منشطة أطفال، وأصبحت مدربة في التنمية البشرية، ونفذت العديد من الدورات، من بينها دورة متخصصة لعمل مقاسم الاتصال في الأردن، وغيرها من مجالات خضتها في العمل بكل ثقة نفس".
وعن تجربتها كموظفة استقبال في فندق سياحي قالت نداء جندية: "هذه التجربة فتحت عيني غير المبصرة على حياة الناس وطرق تفكيرهم، ومستوى الرقي الذي يتعاملون به، خاصة معي، وتفهمهم لوضعي عزز الصفات الجيدة والحميدة في نفسي، لأنني واجهت عكسها في المجتمعات المحلية ذات الوعي المحدود، وكدت أن لا أخرج من بيتنا في مرحلة من المراحل بسبب تعامل شريحة غير واعية مع حالتي".
واستطردت: "لكنني عطلت حاسة السمع وقتها، وقررت أن أكمل مشواري رغم النظرة السلبية لي، والحكم عليّ بالعجز، وها أنا اليوم أحقق ذاتي في تدريبي الفندقي وممارسة عملي التطوعي كموظفة استقبال، فخورة بنفسي وقد تغلبت على كل شيء سلبي، ومن لحظة خروجي من منزلي وركوبي سيارة الأجرة، إلى أن أصل عملي وأنا أجدد ثقتي بما لدي من طاقة".
نداء التي تواجه ثقافات مختلفة في التعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة، تؤمن بالجد والإرادة ولا تؤمن بالاستعطاف والتذلل للغير فتقول: "في بداية انخراطي بالمجتمع اصطدمت بكثير من المواقف التي أجبرتني أحياناً على العزلة، وعدم بناء علاقات اجتماعية حتى مع زميلات الدراسة والجارات، إلى أن وجدت نفسي في حالة تراجع كبير، وعزيمتي تفتر، وشعرت بأنني عبء على الناس والمجتمع ومخلوق منبوذ، وعندما ألغيت هذا الوضع بخوض تجربة التواصل مع الآخرين وجدت العكس تماماً".
وتابعت: "أما الذين ينظرون لي كوني كفيفة بالعجز وقلة الحيلة، فهؤلاء أتجاوزهم تماماً ولا أتعاطى معهم إلا أذا غيروا موقفهم، فالبصر مهم للإنسان وعدم وجوده لا يعني نهاية الحياة، فالكثير من المكفوفين حققوا إنجازات خارقة للإنسانية، اليوم أن أمتلك شبكة علاقات كبيرة، وأرى نفسي مقبولة لدى المجتمع، بل ومنتجة ومؤثرة وهذا أهم شيء في حياتي".
ترفض نداء نظرة المجتمع للمكفوفة أنها غير قادرة على تكوين أسرة وإنجاب أطفال لتربيتهم فتقول: "إيمان المجتمع بأن المكفوفة لا تصلح لتكون أماً إيمان خاطئ، يجب تعديله وتصويبه، لأن المكفوفة إنسانة لها رغائبها واحتياجاتها، وهي لا تختلف عن باقي الخلق، وأن حرمت من البصر فهي قادرة على تكوين أسرة وتربية الأطفال، وتشتهي أن تكون أماً ناجحة ومربية فاضلة، ولا يعوقها فقدان بصرها بشيء".
وتلتقط نداء أي فرصة لتجدد إرادتها، وتؤكد أنها قادرة على العمل والعطاء والسهر من أجل النجاح، وتؤكد: "طموحي كان يأخذني دوماً إلى أن أصير قارئة رحلات جوية في أحد المطارات العالمية، أو ممثلة سينمائية، أو مذيعة تلفزيونية، وهذا الطموح لا يزال حاضراً في حياتي، وأسعى إلى تحقيقه، رغم قسوة الظروف العامة التي يعيشها سكان قطاع غزة".
ورغم إعاقتها البصرية، توجه نداء رسالة إلى الشباب الفلسطيني العاطل عن العمل بإرادة خارجة عنه فتقول: "رسالتي للشباب سواء الصبايا أو الذكور أن الحياة التي نعيشها تستحق منا المحاولات لكي نقنعها أننا قادرون على البناء والعطاء، ولا مبرر للهجرة والاغتراب رغم قسوة الأوضاع وفقدان فرص العمل، لأن الأمل سيبقى المحرك الأساس لحياتنا".