يرث عام 2024 عن سلفه 2023 تحديات صعبة، وملفات شائكة وخطرة.
فمن حرب غزة التي تصدرت المشهد العالمي خلال الربع الأخير من عام 2023، مرورا باستمرار الصراع الدموي في السودان، ومراوحة الأزمة الروسية - الأوكرانية مكانها، وصولا إلى اشتداد الصراع الأمريكي - الصيني، وما بينهما من ملفات الطاقة والهجرة واللاجئين والمناخ والفقر والتضخم ونقص الغذاء والدواء، كلها ملفات متداخلة، ترخي بظلالها على عام 2024، وتهدد بتداعيات خطره على أمن العالم واستقراره، ما لم ينتصر الحوار على العنف، والتعاون على الصراع بين الأطراف المتصارعة في البؤر التي اشتعلت خلال الفترة الأخيرة.
فإذا كانت حرب غزة شكلت الملف الأبرز في عام 2023 عقب هجوم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ومن ثم حرب إسرائيل التدميرية ضد الشعب الفلسطيني، فإن هذه الحرب كشفت عن جملة معطيات؛ لعل أهمها أن السياسة الأمريكية وصلت إلى مستويات خطرة في دعمها لإسرائيل على حساب السلام كقيمة استراتيجية في الشرق الأوسط، وكذلك على حساب مصداقية السياسة الأمريكية التي عطلت مجلس الأمن، ومنعته من القيام بدوره في وقف هذه الحرب المجنونة.
كما كشفت عن حجم الاستثمار الأمريكي - الإيراني في هذه الحرب تطلعا إلى تفاهمات لم تنجز بين الجانبين إلى الآن، فإيران قابلت الحشد الأمريكي العسكري والسياسي الداعم لإسرائيل بإطلاق أذرعها في المنطقة على قاعدة الحرب بالوكالة بين الجانبين.
فعلى وقع هذه الحرب حول الحوثيون الممرات البحرية في المنطقة إلى أماكن خطرة لأمن العالم والتجارة بين دوله، كما تحولت جبهة حزب الله المضبوطة بقواعد الاشتباك مع إسرائيل إلى قنبلة قد تفجر حربًا تدميرية ضد لبنان على غرار غزة.
كما تحولت القواعد والمقار العسكرية الأمريكية في العراق وسوريا إلى ساحة للمشاغبة من قبل المليشيات المسلحة التابعة لإيران، فيما لا تتوانى واشنطن عن التهديد بسيناريو الجحيم إذا خرجت الأمور عن قواعد اللعبة مع إيران، تلك اللعبة التي يُراد منها رسم خرائط جيوسياسية جديدة على حساب شعوب المنطقة وأمنها ومستقبلها ولقمة عيشها.
بموازاة حرب غزة، يشهد الصراع في السودان مرحلة جديدة من تصعيد الصراع دون أي أفق للحل، سواء بالحسم العسكري أو الحل السياسي، وهو ما ينذر باستمرار المشهد الدموي في البلاد، وانفتاحه على المجهول ما لم يسفر اللقاء المرتقب بين الجنرالين عن تسوية للصراع.
ومع أن حرب غزة غطت إلى حد كبير على الحرب الروسية – الأوكرانية، إلا أنه من الواضح أن الانغماس الأمريكي الأمريكي في الشرق الأوسط منح فرصة لموسكو في استعادة زمام المبادرة، والتركيز من جديد على قصف العاصمة الأوكرانية كييف، وهو ما قد يضع الأخيرة في موقف صعب في المرحلة المقبلة، لاسيما في ظل تعالي الأصوات الرافضة داخل الإدارة الأمريكية لاستمرار الدعم المفتوح لأوكرانيا.
مثل هذا الأمر سيصبح أكثر حساسية لإدارة بايدن مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، فالاستحقاق الدستوري سيشكل أحد أبرز الاستحقاقات السياسية في عام 2024، في ضوء الانتخابات المقررة في كل من الولايات المتحدة وروسيا والهند وبريطانيا والهند وتايوان، بمشاركة قرابة أربعة مليارات شخص في هذا الاستحقاق السياسي الذي قد يولد تغييرات سياسية من شأنها التأثير في خيارات الدول الكبرى، وسياساتها إزاء البؤر المشتعلة في عديد من مناطق العالم.
في منطقتنا التي تعيش على وقع هواجس تداعيات حرب غزة، لا تبدو الصورة وردية، فالملف السوري يراوح مكانه رغم عودة سوريا التي تئن تحت وطأة الأزمات إلى جامعة الدول العربية، والعراق الذي أنهى عامه بانتخابات محلية يعيش على وقع التجاذب الأمريكي - الإيراني، فيما الأنظار تتوجه إلى لبنان والخشية من أن تتحول الاشتباكات بين حزب الله وإسرائيل إلى حرب مدمرة، خاصة وأن تل أبيب لوحت أكثر من مرة أنها لن تقبل بعد حرب غزة بقاء حزب الله تهديدا له، وأن ذلك يتطلب تغيير القواعد الجارية سواء حربا أو سلما، عبر العودة إلى تطبيق باقي بنود القرار الدولي 1701.
ولعل هذه الأحداث والتحديات مجتمعة، تدفع بدول الخليج العربي أكثر فأكثر إلى توحيد صفوفها، وقراءة التحولات والمتغيرات الجارية بدقة، من أجل كيفية التعامل معها بما يخدم المواقف العربية بحثا عن الاستقرار والتنمية والمكانة في عالم يشهد تحولات ومتغيرات وتحديات مفصلية، حيث شكل مؤتمر «COP28» في دبي قصة نجاح بإرادة إماراتية.
من الواضح أن الملفات الساخنة، خلال عام 2023 رُحلت إلى العام 2024، وسط مخاوف من انتقالها إلى مرحلة أشد صعوبة في ظل تدافع القوى الكبرى إلى الاستثمار السياسي فيها، ومحاولة جعلها محطة لفرض تغيرات جيوسياسية جديدة، كما هو حال الإصرار الإسرائيلي على تهجير أهالي غزة إلى سيناء المصرية، والرفض الأمريكي لوقف إطلاق النار.
ولعل ما يحدث على جبهة غزة يجري ولو بشكل مختلف في الحرب الروسية - الأوكرانية في ظل انتظار حلف الناتو موافقة تركيا على ضم السويد بعد فنلندا إلى عضويته، وهو ما سيعزل روسيا من جهة بحر البلطيق، فيما تسعى موسكو إلى عزل كييف عن البحر الأسود.
وعلى وقع كل ما سبق يتواصل الصراع الأمريكي - الصيني على التجارة وتايوان، في وقت تواصل فيه بكين صعودها في مختلف المجالات، بينما تنكفئ القارة الأوروبية على مشكلات وأعباء اللاجئين وتواصل موجات الهجرة إلى دولها وسط تصاعد تيارات يمينية متطرفة إلى سدة المشهد السياسي.
كل ما سبق يجعل عام 2024 عاما حافلا بالتحديات الصعبة، والمخاطر الحاملة لحروب مدمرة إن لم تنتصر لغة الحوار والعقل على النزعات الصدامية والأيديولوجيات الراديكالية التي تحولت على أرض الواقع إلى أيديولوجيات قاتلة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة