في محاولاتها الأولى للوقوف، أرى ابنتي "نور" -تسعة أشهر حياة- تلمح ظلّها على الحائط، يغازلها، يُغويها بصوته الرَّماديِّ: اتبعيني إلى أعلى!
تُصدِّق الصغيرة، التي تكاد تقف ثانيتين وحدها على الأكثر، غواية الصعود إلى أعلى.. تطير قبضتُها وراء ظلّها.. لم تكتمل مهارة أصابعها في الإمساك بأجزاء ضئيلة، إذ قالت لنا طبيبتُها انتظروا مهارتها تلك في سن مقبلة: لا تقلقوا!
حتى ذلك الحين، تُضطر "نور" لاستعمال قبضتها البطيئة، والتي يُفلت منها، ليس الظل وحده، بل كل الأجسام ذات السرعة.. من حسن الحظ أنها حتى الآن لا تعرف طعم اليأس وما يحققه لنا -نحن الكبار- من راحة واطمئنان وخضوع..
تمسك طعامها المهروس لكنه يغوص داخل قبضتها فلا تأكل منه إلا قليلا، وتتعجب هي: أين اختفى الطعام؟ أفي قبضتي ثقب أسود يلتهم الموجودات؟
لم تسأل صغيرتي هذه الأسئلة طبعا.. إنه خيالي الذي يريدها أن تتكلم بلسانه.. فهي أولى من عالمي الكبير بالسؤالات الكبرى..
الصغار دائما هم من يسألون أسئلة كبرى: من أين جئت؟
فهل لا يزال بداخلكم "نور" يكفي لتصعدوا إلى لذة المعرفة والحياة؟
لا تزال صغيرتي، التي تزيد مع الوقت طولا يشبهني، فقد ورثت مني جين الطول، تلهو خلف لذتها المطاردَة.. كأن نايا سحريا يسوق حَجَر عينيها الصغيرتين وراء ظل يمثلها.
لكن الظل لا يزال يُفلت منها، وهي لا تزال أبطأ، فلا تقبض إلا الريح في كل محاولة.. تأكدَت فيما يبدو أنها لا تقوى على قنْصه الآن، تؤجله إلى لحظة أخرى، لحظة ربما تكون التالية، هو الآخر يطاردها في فكرها.. تؤجله ولا تلغيه، لكن البطء هو اللذة كما أثبت ميلان كونديرا في روايته التي أدهشتني بسرد قصتي حب في عصرين مختلفين..
هذا العبور فوق الزمن يشبه الإمساك بالظل بدرجة ما..
فالطموح البشري، سواء كان لصغير أو كبير، أن يطير.. أن يترك مساحته المحدودة إلى فضاء أرحب لا محدود، والطموح البشري لا ينفصل عن طموح الدول.. ليس في الأمر مجاز، لكن لكل قدراته، التي تمنعه أحيانا عن الطيران..
هذه ليست مقالة بمعنى التحليل والرأي وحسن الاقتباس والاستشهاد.. ربما هي قصيدة.. قصيدة مفككة عن الظل.. ممكن.. عن البنت التي تطارد ذلك الظل الصغير على الحائط.. يجوز.. عن المسافة بين كل جسد وما يماثله من حلم.. ربما.. عن تفلسُف شاعري من زاويةٍ طفلة يفتح مضامين مدفونة في هوة سحرية.
تزعق "نور" في ظلها على الحائط حين لا يرضى بالوقوع بين يديها.. يبدو أن الصوت سلاحها الجديد.. هي ذات الزعقة تقريبا حين تفقد الأشياء التي تختبر طعمها بفمها، وحين تفقدها الأشياء عاجزة عن الوقوف معها والدوران عبر محورها كنحلة مُصابة، أو كلاعب سيرك آن له أن يرتكب الخطأ الذي يكلفه السقوط.
تُحيلني صورتها وهي تهوي على الكنبة إلى قصيدة الشاعر المصري، الذي التقط صورة ذلك اللاعب البائس، الذي يُضحك جمهوره بمأساته.. الفارق هنا أن "نور" لا تُبكي أحدا، بل تفرّج متفرجَيْها الوحيدَين، أنا وصاحبة أحاديث المرايا.
ولفك شفرة ما أقول فإن تعريفا آخر للظل يبدو لنا في المرآة، تلك التي كتبت عنها "أم نور" في قصتها المصوّرة، التي ربطت فيها بين أحداث ثورة وبين الشيب، الذي أصابها فجأة في المرآة.
قد يكون التأويل أن الأم بلد.. وأن الثورة شيب وعجز وانهدام جدار.. لكن دع التأويل في موضعه.. فهذه الدهشة، التي ظهرت في عيني "نور" أمام ظلها على الحائط، تماثل وجه أمها المشدوه حين قفزت لها شعرات بيض وهي تفحص نفسها في المرآة.
كثيرا ما وقع الشعراء في فخاخ المجاز.. الظل والمرآة.. لعلهما من رموز التعلُّق بالنفس.. لعلهما مفاتيح للجري وراء الزمن.. أو فضاء صحراوي ممتد بالسراب يُغري المسافر بماء لا وجود له، لكنه لا يقوى إلا على استمرار المطاردة/استمرار السعي نحو أمل ما.. نحو "نور" ما.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة