باغتَ الزلزالُ المدمر فجرًا شركاء الجغرافيا الواحدة على طرفَي الحدود التركية السورية.
سوريون على الجانبين.. بعضهم التهمتْه أعماق الأرض بغتة في لحظة غفلة، وآخرون أرْقدتهم الكُتل الإسمنتية عَنوةً بلا رحمة تحت أنيابها المفترسة، التي لا ترحم.
تَعلق الأمل بناجينَ، فكان البعض ممن منحه القدر فرصة حياة جديدة يختزل بأنينه أو بدهشته، أو بوجع فقدانه أحبَّته، دهرًا من الرعب في كارثة تُحسب بالثواني وبأجزاء من الثواني ليس إلا.
تفاوتت شدة الزلزال بين منطقة سورية وأخرى، ولم يُسْتثنَ جنوبُها على بعد مئات الكيلومترات من شمالها المنكوب، تعدّاه إلى دول الجوار، وإنْ باهتزازات أقل وأخف.. أيقظ الغارقين من نومهم في معظم الجغرافيا السورية وكأنه ينبّههم إلى حدوث كارثة مدوية لأشقائهم على الطرف الشمالي والغربي من بلادهم.
مرت الساعات ثقيلة على المتطلعين لاستكشاف هول الكارثة ومخلفاتها، المكتوين بنارها كما المترقبين سماع صوت أحد ذويهم يزف بشرى نجاته من فم الغول.. لا يوجد بيت سوري على امتداد جغرافيا الوطن المفجوع إلا وله امتداد من أبنائه في أقصاه الشمالي.. القهر قهران.. قهر تحدي الطبيعة والعجز عن مقارعتها، وقهر هواجس الإحساس باحتمال فقدان عزيز.
توالت اللحظات مريرة على التائهين بين خفقات قلوبهم.. فتارة توسوس النفسُ لهم بملامح فاجعة وشيكة، وتارة أخرى يهربون بمخيالاتهم من وطأة الوساوس إلى أمل مُعلق، لكنه مشوّش.
ارتسم المشهد على شكل فاجعة اعتصرت قلوب الملايين من السوريين.. أنين بعض العالقين تحت الركام ممن كُتبت لهم الحياة واستغاثاتهم ترددت أصداؤها في أفئدة المحاصرين بقلقهم وبهواجسهم ترقبا وانتظارا لخبر يتأخر مع مرور الدقائق، فيجعلهم نهبا للتكهنات المتناقضة تنهش دواخلهم، إلى أن تأتي الصدمة على شكل حقيقة صادمة، بمُرّها أو بحُلوها، كحال تلك الأم لحظة التقت عيناها بعينَي ابنتها الشابة محمولة على نقالة المسعفين بعد انتشالها من تحت الأنقاض، والشابة تتحامل على جروحها وأوجاعها لرسم ابتسامة قسرية على وجهها لطمأنة أمها بأنها لا تزال على قيد الحياة، فكان أن فقدت الوالدة وعيها وسقطت على الأرض مَغشيا عليها.
أكثر من عقد من الزمن والسوريون يدارون جراحهم.. لاح في أفق آمالهم بصيص نور تسلل بين ثنايا ركام تلك السنين العجاف.. ما لبث أن أطفأته عوامل خارجة عن إرادتهم حين فرضت جائحة كورونا سطوتها، لتتبعها تحديات اقتصادية موجعة طالت أسباب وتفاصيل حياتهم الأساسية.
في غمرة عراكهم تلمُّسًا لطريق الخلاص وتأمين الأساسيات من الاحتياجات اليومية، داهمهم على حين غرة غول لا يفرّق بين متنعّم وبين مقهور، ولا يعترف بحدود تفصل بين جغرافيا وأخرى، ساوَى بين ضحاياه السوريين على طرفَي الأرض السورية وبين جيرانهم الأتراك دون تمييز. الوقت مضى، وها هو يمضي متجاوزًا أياما عدة منذ حدوث النكبة الإنسانية. عقارب الساعة لا تعود إلى الوراء. استغاثات العالقين تحت الأنقاض خَفتَ أنينها رويدا رويدا إلى أن تلاشى الصوت نهائيا.. صفحة أخرى من دفتر الوجع السوري المُشرع على احتمالات مفتوحة تلتحق بسابقاتها، وسَيَطويها الزمن، لكنها ستخلّف في أرواح المنكوبين بأهليهم نُدوبا وجروحا لا تندمل.
قديما قالوا "إذا عرف الإنسان جَور الطبيعة فإنه يتحدى الفناء".. منذ بدء الخليقة سعى الإنسان وعمل على تطويع الطبيعة.. أفلح في كثير من مساعيه، لكنه ظل عاجزا عن مقارعة بعض تجليات غضبها، خصوصا عندما تزمجر وكأنها ترفع راية التحدي ضده كلما اعتقد أنه اقترب من الإمساك بلجامها، لتعلن بين الفينة والأخرى عجز العقل البشري عن السيطرة التامة عليها مهما حاز من العلم والأدوات والإمكانيات والمعرفة.. تمكّن الإنسان من الإفادة من ثرواتها المكتنزة في بطونها، وتلك التي تشكل لوحاتها الهندسية الأخاذة على وجه المعمورة المرسومة بريشة الإنسان وبراعته الهندسية.
مع مرور الأيام ستنقشع غمامة الكارثة الزلزالية عن سوريا، وسيجري لملمة شظاياها الإنسانية أولا، وملحقاتها تاليا، بما هو متاح من قدرات وإمكانات، لكن قلوب السوريين، أبناء الجرح الواحد وضحايا الفاجعة، ستظل تهفو إلى ذكرى عزيزٍ رحل، وإلى دارٍ مَنحت أرواحهم، ذات صقيع، أمانًا ودفئا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة