يُمكن تفسير حالة الاضطراب العالمي أساسًا بالتغير في موازين القوة العالمية وانتقال مصادر الإنتاج والتجارة والثروة من الغرب إلى الشرق
يعتبر مفهوم الاضطراب العالمي من المفاهيم المُتداولة والتي يستخدمها الباحثون في فهم ما يجري في التطورات السياسية والاقتصادية في العالم وتفسيرها. ويعود هذا المفهوم إلى عام 1990 عندما استخدمه أستاذ العلاقات الدولية الأمريكي "جيمس روزيناو" في تحليله للنظام العالمي. واكتسب المفهوم شهرة وذيوعاً واسعين في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وذلك مع تلاحق الأزمات والأحداث المفاجئة وغير المتوقعة، والتقلبات في المواقف والسياسات للدول الكبرى، وتراجع التحالفات الصلبة وازدياد وزن التحالفات المرنة والمُتغيرة. فشهد العالم في عام 2019 من ناحية أولى توترات وصراعات بين الحلفاء مثل ما حدث بين كوريا الجنوبية واليابان، وبين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، ووجدنا من ناحية أُخرى تقاربات وتفاهمات بين الخصوم مثل توقيع اتفاقية التجارة بين أمريكا والصين من عدة أيام.
تحدث هذه التطورات في سياق التقدم المتسارع في الإنجازات العلمية والتكنولوجية وخصوصًا في مجالات الذكاء الاصطناعي، ونمو اقتصاد المعرفة ومجتمعها، وهو ما يسمى عمومًا بمصطلح "الثورة الصناعية الرابعة".
طرحت روسيا والصين ضرورة تغيير النظام الدولي الراهن لأنه نظام غير ديمقراطي يفتقد احترام مبادئ المساواة والعدالة بين الدول وخصوصًا في المنظمات الاقتصادية الدولية.
يُشير المفهوم اللغوي لكلمة "الاضطراب" إلى نقيض النظام والاستقرار، أو إلى حالة من الفوضى والبلبلة. فاضطراب الشيء يُقصد به تحركه على غير انتظام. فيذكر معجم المعاني الجامع: اضطرب الشَّخصُ: أحسَّ بقلق وحيرة، أي تردَّد وارتبك واختل، ويسير على نفس النهج معجما الوسيط ومختار الصحاح، ويستخدمان التعبير في العلوم الاجتماعية على نحو مماثل يشير إلى عدم الاستقرار وغياب الانتظام في علاقات البشر والجماعات والمؤسسات وازدياد مساحة السيولة وعدم اليقين فيها.
ولا يحتاج المرء إلى تفصيل مظاهر الاضطراب على المستوى العالمي والأزمات المتلاحقة التي شهدها عام 2019 مثل ما حدث بين الولايات المتحدة من ناحية وكُل من روسيا والصين من ناحية أُخرى، وبينها وبين فرنسا وألمانيا والتي هددت كُل منهما باستخدام العقوبات الاقتصادية إذا لم تُغيرا موقفيهما تجاه إيران في الصراع الدائر معها، وأن تلتزما بالموقف الأمريكي وهو ما تحقق بالفعل. وألقى هذا الاضطراب بتأثيراته على الأوضاع الإقليمية وحظيت منطقة الشرق الأوسط بالنصيب الأكبر من هذه التأثيرات في تصعيد الصراع مع إيران واستمرار الحروب بالوكالة في سوريا وليبيا واليمن والعراق. وتصاعُد النزعات التوسعية التركية في سوريا وليبيا وبشأن غاز شرق البحر المتوسط. وفي آسيا، توترت العلاقات بين الهند وباكستان بسبب القرار الهندي بتغيير الوضع القانوني الخاص بإقليم كشمير.
ويُمكن تفسير حالة الاضطراب العالمي أساسًا بالتغير في موازين القوة العالمية وانتقال مصادر الإنتاج والتجارة والثروة من الغرب إلى الشرق، والصعود التاريخي للصين الذي جعلها تحتل المرتبة الثانية على قمة الاقتصاد العالمي بعد أمريكا وتنافسُها على موقع الصدارة. اتسعت علاقات الصين الاقتصادية والتجارية وطورت صناعاتها العسكرية ومدت قوتها الناعمة إلى سائر أرجاء العالم، وطرحت مفهومًا صينيًا للعولمة باسم استراتيجية الحزام والطريق.
ترافق ذلك مع تراجُع نصيب أمريكا في إجمالي الناتج العالمي فبعد أن كان حوالي 50% في الخمسينيات من القرن الماضي فقد انخفض الآن إلى أقل من 20% وازدادت الهُوة بين تكلفة الالتزامات العسكرية والأمنية لأمريكا حول العالم وقُدرتها الاقتصادية على الوفاء بها. وهو ما جعل واشنطُن تطرح فكرة "المُشاركة في الأعباء" أي ضرورة تحمُل الحُلفاء جُزءًا من التكُلفة الاقتصادية.
وجاءت إدارة الرئيس ترامب لتكشف عن هذه الهُوة بشكل صريح ومُباشر فتساءل ترامب أكثر من مرة: "لماذا يكون على أمريكا أن تتحمل وحدها نفقات الدفاع عن الغرب؟" وأنه على أوروبا أن تُشارك في تحمل مسؤولية الدفاع التي يتولاها حلف الأطلنطي وخاطب قادة دول الحلف بأن "عليكم أن تدفعوا وأن تُنفذوا الالتزام بتخصيص 3% من الميزانية للإنفاق العسكري".
لقد كان من شأن هذا الاضطراب بروز نوعين من الاختلال على المستوى العالمي. الأول هو تبلور عدم الاتفاق بين القوى الكبرى على القواعد المُنظمة للسلوك الدولي وخصوصًا الدور الذي تقوم به الولايات المُتحدة في هذا الشأن. فعلى مدى سنوات ما بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991، مارست واشنطن دور القيادة المُنفردة والذي برره ودافع عنه تيار "المُحافظين الجُدد" الذي أكد أنصاره ضرورة استمرار بلادهم في الاضطلاع بهذا الدور وأن القرن الحادي والعشرين سيكون "القرن الأمريكي".
وفي إطار هذا الانفراد الأمريكي بقيادة العالم، قامت واشنطن بشن حرب على أفغانستان في عام 2001، وبغزو العراق في عام 2003، وحافظت على قواعدها العسكرية في أكثر من مائة دولة. وتدخلت في الصراعات الداخلية إما مُباشرًة وإما من خلال دعم مليشيات وتنظيمات محلية كما حدث في سوريا. وقامت بمد نطاق حِلف الأطلنطي إلى منطقة الجوار الروسي المُباشر وإقامة قواعد عسكرية للحلف ومنصات لإطلاق الصواريخ فيها وذلك بالمُخالفة للتفاهم الذي وصل إليه البلدان في عهد جورباتشوف ويلستين.
ومع استعادة روسيا لحيويتها السياسية والعسكرية، تحركت لوقف ما أسماه بوتين في خطابه أمام الجمعية العامة في سبتمبر 2015 بـ"الفوضى الدولية". وفي الأسبوع التالي، أرسل قواته إلى سوريا في إطار اتفاقية عُقدت بين البلدين. واتهم أمريكا بالتدخُل في أوكرانيا لتغيير رئيس الجمهورية المُتعاطف مع روسيا وقامت بضم شبه جزيرة القرم التي كان الاتحاد السوفيتي قد تنازل عنها لأوكرانيا في الخمسينيات. وكشفت هذه الأحداث عن سقوط الاتفاق بين الدول الكُبرى حول قواعد السلوك في النظام الدولي.
والثاني، عدم الاتفاق حول قيم النظام الدولي والمبادئ الحاكمة له فبينما اتجهت الولايات المُتحدة والدول الغربية إلى تبني مفاهيم وقيم جديدة مثل القانون الدولي الإنساني، ومبدأ حق التدخُل والذي بررت به انخراطها في الشؤون الداخلية للدول الأُخرى بدعوى حماية الأقليات ونشر الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. فإن روسيا والصين قد رفضتا مثل هذه المفاهيم واقترحتا مع عدد كبير من الدول النامية أنها ذريعة تستخدمها أمريكا والدول الغربية لانتهاك ميثاق الأمم المتحدة الذي ينص على مبدأ سيادة الدول وعلى عدم التدخُل في الشؤون الداخلية لها.
طرحت روسيا والصين ضرورة تغيير النظام الدولي الراهن لأنه نظام غير ديمُقراطي يفتقدُ احترام مبادئ المُساواة والعدالة بين الدول وخصوصًا في المُنظمات الاقتصادية الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي فقاما بإنشاء مجموعة البريكس -مع دول أخرى- لكى تمثل ثقلا موازيا في النظام الدولي، وإنشاء عدة منظمات اقتصادية بديلة توفر التمويل للدول النامية بدون شروط سياسية.
والنتيجة التي نصلُ إليها أنه طالما استمر الاضطراب العالمي والاختلافات العميقة بين القوى الكُبرى وتحديدًا أمريكا وروسيا والصين بشأن قواعد السلوك في النظام الدولي والقيم الحاكمة له، فإنه من الأرجح أن تستمر هذه الصراعات والتوترات وأن مُحاولات الوصول إلى توافُقات بشأن أحد الموضوعات مثل اتفاق التجارة بين أمريكا والصين أو ما توصل إليه مؤتمر برلين بشأن ليبيا هي بمثابة "هُدنة مؤقتة" أو "تهدئة مرحلية".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة