الحكومة الانتقالية في السودان.. الأولويات والتحديات
تسليم السلطة لحكومة مدنية يعتبر بادرة أمل على طريق المصالحة الوطنية بالسودان، لكنها تبقى خطوة غير كافية لضمان الانتقال السياسي الآمن.
في الثامن من سبتمبر/ أيلول الجاري، أدت الحكومة الانتقالية بالسودان اليمين الدستورية، أمام رئيس مجلس القضاء الأعلى، بابكر عباس، ورئيس مجلس السيادة، الفريق أول عبدالفتاح البرهان، وتعد هذه الحكومة هي الأولى بعد عزل الرئيس البشير، والتي يعقد عليها السودانيون الآمال في تأسيس الجمهورية الجديدة، والانتقال بالبلاد نحو الديمقراطية والتنمية والسلام، بعد عقود مديدة تجرع السودان خلالها ويلات الحرب وضيق العيش والعزلة الخارجية. لكن ذلك لم يبدد القلق بشأن قدرة الحكومة على تنفيذ استحقاقات المرحلة الانتقالية، وفقاً للجداول الزمنية المحددة، في ظل التحديات الجسيمة التي تنتظرها.
كان رئيس الوزراء السوداني د. عبد الله حمدوك قد أدى اليمين الدستورية في 21 أغسطس/أب الماضي، ليبدأ بعدها مشاوراته المكثفة، مع المجلس السيادي وقوى الحرية والتغيير، التي أفضت إلى تشكيل حكومة مدنية انتقالية، وتسليم السلطة إليها، بعد 9 أشهر من المساومات والجدل، وذلك بمعاونة صادقة من الوساطة الأفريقية-الإثيوبية، المدعومة دولياً.
تباين الآراء حول تشكيل الحكومة
تضم الحكومة الانتقالية 18 وزيراً، من بينهم 4 من النساء، تم اختيارهم وفق معايير الكفاءة والنزاهة، والتوازنات السياسية، وقد عكس اختيار المجموعة الوزارية التزام رئيس الحكومة بالبراجماتية، والبعد عن الحسابات الأيديولوجية، رغم خلفيته اليسارية، وكذا رغبته في خلق مشاركة متسقة بين العسكريين والمدنيين، وإقامة نظام ديمقراطي قادر على مجابهة التحديات، دون الانتكاس إلى الحكم العسكري مرة أخرى، مثلما حدث عقب ثورتي 1964 و1985.
تباينت الآراء حول طريقة تشكيل الحكومة، فأكد البعض أن اختيار شخصيات سودانية من المهنيين العاملين بالخارج سوف يشجع أبناء السودان على العودة إلى البلاد، والمشاركة في جهود إعادة البناء، كما أنه سيحرر الوزراء من التقيد بالالتزامات الحزبية الضيقة، ليصبح ولاؤهم الأسمى للوطن. يضاف إلى ذلك أن وجود 4 نساء بالتشكيل الوزاري، بما فيها وزارة الخارجية يمثل نقلة نوعية نحو النهوض بأوضاع المرأة السودانية، مما يساعد على ترسيخ ثقافة التنوع بالبلاد.
في المقابل، اتهم البعض "حمدوك" باتباع سياسة المحاصصة الجهوية لدى تشكيل الحكومة، والاعتماد على تقارير الأجهزة الأمنية التابعة لنظام الإنقاذ في جمع البيانات عن مرشحي الحقائب الوزارية، كما انتقدوا نقص الخبرة السياسية لدى أغلب الوزراء، الذي من شأنه إسناد مهام جسيمة لشخصيات تفتقد للإحساس بالواقع السوداني، نظراً لغيابهم عن البلاد لعقود طويلة.
والأخطر من ذلك، أن غلبة التوجهات الليبرالية على معظم الوزراء، ربما تدفعهم لتقليص دور الحكومة في الحياة الاقتصادية، ورفع الدعم عن السلع والخدمات الرئيسية، مما قد يزيد من معاناة الشعب، ويجعل الحكومة خصماً للشرائح الاجتماعية الوسطى والفقيرة، التي انتفضت ضد نظام الإنقاذ، لتصبح عرضة لموجة ثورية جديدة، لا يملك السودان رفاهية الانجراف إليها.
لكن رئيس الوزراء، حرص على تهدئة تلك المخاوف، فأكد أن حكومته لن تتخلى عن مسئولياتها تجاه المواطنين، وأنها ترمى لاستعادة الحياة الطبيعية بالبلاد، خاصة إعادة افتتاح مؤسسات التعليم، وبحث ملفات الموظفين المفصولين خلال العهد البائد، كما حدد "حمدوك" أولويات إدارة المرحلة الانتقالية وأهمها: إيقاف الحرب وبناء السلام العادل والشامل، ومعالجة الأزمة الاقتصادية، ووقف الارتفاع الحاد في الأسعار، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات، وضمان استقلال القضاء، وتحقيق العدالة الانتقالية، وتشكيل لجنة تحقيق مستقلة لبحث انتهاكات حقوق الإنسان، ووضع سياسة خارجية معتدلة، وضمان التمثيل العادل للنساء في كافة الأجهزة التنفيذية، وبناء دولة القانون، وبناء نظام سياسي تعددي يحتفي بالتنوع.
وهنا تجدر الإشارة إلى تجاهل "حمدوك" المتعمد للحديث عن محاكمة رموز النظام السابق، مثلما اعتاد قادة المعارِضة منذ سقوط نظام البشير في أبريل/نيسان 2019، وهو ما يؤكد أن الرجل جاء من أجل البناء وليس الانتقام، وأنه يتطلع أكثر إلى المستقبل، ولا يعبأ كثيراً بالتنقيب عن مسالب النظام السابق، لكن هذه اللغة التصالحية لم تقنع أغلب قادة المعارضة، وأسر الشهداء، الذين أكدوا الحاجة إلى خطاب ثوري يلبى حاجتهم إلى محاسبة هؤلاء الذين تورطوا في انتهاك حقوق الإنسان بالسودان ونهب مقدرات الوطن.
بعيداً عن الجدل الداخلي، فقد لقى تشكيل الحكومة ترحيباً إقليمياً ودولياً واسع النطاق، وهو ما انعكس في قرار الاتحاد الأفريقي بإنهاء تجميد عضوية السودان بالاتحاد، والذي كان يرتهن بتسليم السلطة لحكومة مدنية، كما صدرت بيانات عن الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تثمن هذه الخطوة، وتعتبرها مفصلية على طريق الانتقال السياسي بالسودان.
تحديات أمام الحكومة
غير أن طريق الحكومة نحو تنفيذ استحقاقات المرحلة الانتقالية والاستجابة لثورة التوقعات لدى مواطنيها لن يكون مفروشاً بالورود، بل إنه يصطدم بالعديد من التحديات، التي تتعلق باختلاف الآراء والمواقف داخل النخبة الحاكمة، وتشكيل المجلس التشريعي، وتحركات عناصر الثورة المضادة، وآليات العدالة الانتقالية، والصعوبات الاقتصادية، وغيرها.
إذ توجد مساحة متزايدة للخلاف داخل تيار المعارضة المدنية، وهو ما تجسد بانتقاد تجمع المهنيين السودانيين لانفراد بعض قادة الحرية والتغيير بالتفاوض مع المجلس العسكري بأديس أبابا، دون تنسيق مع باقي الفصائل، بالإضافة لتمسك حزب الأمة القومي بعدم مشاركته في مؤسسات المرحلة الانتقالية، مع التركيز على ضم الحركات المسلحة للاتفاق، والانخراط في عملية السلام، واعتراض الحزب الشيوعي على الوثيقة الدستورية، وعدم الاتفاق على اسم المرشح المدني لرئاسة المجلس السيادي للأشهر الثمانية عشرة الأخيرة، عقب نهاية ولاية الفريق أول عبد الفتاح البرهان.
كما احتجت الجبهة الثورية المسلحة على ما اعتبرته تهميشاً لها من جانب قوى الحرية والتغيير، متهمة إياها بالنكوص عما تم الاتفاق عليه بأديس أبابا والقاهرة، وهو ما دفع الجبهة لانتخاب قيادة موحدة، تعبر عن مكوناتها، برئاسة الهادي إدريس، حتى تضمن تمثيلاً فاعلاً في الحكومة، وتحسن موقفها التفاوضي خلال عملية السلام المرتقبة، لكن بقاء حركة تحرير السودان، بقيادة فصيل عبد الواحد نور، خارج مظلة المفاوضات يظل هاجساً يؤرق العملية السلمية في البلاد، ولعل الاعتداء على وفد قوى الحرية والتغيير بمدينة الفاشر شمال دارفور مؤشر قوي على ذلك.
ومن المرجح أيضاً أن يحتدم الخلاف بشأن تكوين المجلس التشريعي، حيث تمنح الوثيقة الدستورية قوى الحرية والتغيير67% من مقاعد هذا المجلس، وهو ما تعترض عليه الأحزاب السياسية الأخرى، بدعوى أن قوى الحرية والتغيير ليست وحدها في ميدان الثورة، كما توجد مسألة شائكة تتعلق بمحاسبة المتورطين في جرائم الفساد وانتهاك حقوق الإنسان، التي قد تطال العديد من قادة القوات المسلحة السودانية، ومنهم بعض أعضاء المجلس السيادي، مما يتطلب رفع الحصانة عنهم، بموافقة المجلس التشريعي أو المحكمة الدستورية، حال عدم قيام المجلس التشريعي، وهو ما سيؤدى للصدام بين المؤسسات الانتقالية الثلاث.
يتخوف الكثيرون أيضاً من تحالف عناصر الثورة المضادة، الموالية لنظام الإنقاذ، لأجل عرقلة مسيرة المرحلة الانتقالية، استناداً لما تملكه من قواعد جماهيرية، ومقدرات مالية وأدوات إعلامية لا يملكها منافسوهم، واحتمالية تعاونها مع القوى الإقليمية الداعمة للنظام السابق، مما قد يخلق جبهة معادية للحكومة المدنية، قبل أن تعيد تشكيل خارطة العلاقات السودانية الخارجية. وقد تجلت بوادر هذا التوجه مع اعتراض العناصر الإسلامية على الوثيقة الدستورية، واتهامها لقوى الحرية والتغيير بتأسيس نظام شمولى جديد بالبلاد.
تبقى كذلك ثورة التوقعات لدى السودانيين، وتنامى مطالبهم الفئوية، المتعلقة بتحسين أحوالهم الاقتصادية والاجتماعية. فضلاً عن وجود بعض الملفات التي لم تحسمها الوثيقة الدستورية، وأهمها تعيين حكام مدنيين للولايات، وتحديد شكل الدولة، وطبيعة النظام السياسي عقب انتهاء المرحلة الانتقالية، وهي قضايا بالغة التعقيد، لن يتيسر حسمها بسهولة.
في مواجهة تلك التحديات، طالب رئيس الوزراء أدوات الإعلام والقوى السياسية بمساندة سياسات الحكومة، مؤكداً أن اختلاف الآراء يمثل ظاهرة صحية في النظم الديمقراطية، بشرط الالتزام بالسلمية، كما اجتمع محمد حمدان دقلو ممثل المجلس السيادي بقادة الجبهة الثورية بجوبا، لإجراء مشاورات أولية قبل بدء التفاوض الرسمي مع الحكومة، بهدف تعميق بناء الثقة بين الطرفين، ورسم الخطوط العريضة لإرساء السلام بالبلاد، كما ناشد المجلس السيادي والحكومة الأطراف الإقليمية والدولية بعدم التخلي عن السودان، ودعم مسعاه الرامي لرفع اسمه من اللائحة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، بما يعجل بإعادة إدماجه في الحياة السياسية والاقتصادية، واستعادة مكانته الدولية.
ختاماً، فإن تسليم السلطة لحكومة مدنية يعتبر بادرة أمل على طريق المصالحة الوطنية بالسودان، لكنها تبقى خطوة غير كافية لضمان الانتقال السياسي الآمن، فالسلام ليس صفقة أو محاصصة بين حفنة من القيادات، ولكنه عملية شاملة تتطلب تغليب المصالح العليا للوطن، وتنحية الولاءات الأيديولوجية، والروابط الجهوية، وإعلاء مصالح الشعب، وحشد موارده وتوظيفها بالشكل الأمثل، دون تمييز أو إقصاء، وقطع الطريق أمام تدخلات القوى الإقليمية والدولية الرامية إلى تنفيذ أجنداتها الخاصة بالسودان، مع بناء شبكة من العلاقات الخارجية المتوازنة، التى تحقق مصالح البلاد، وتحافظ فى ذات الوقت على سيادتها الوطنية.