«الميراث الكبير».. 9 تريليونات يورو تعيد رسم خريطة الثروة في فرنسا (حوار)

في صمت ودون ضجيج إعلامي، تستعد فرنسا لأحد أكبر التحولات الاقتصادية والاجتماعية في تاريخها الحديث: انتقال ثروات ضخمة من جيل إلى آخر فيما يُعرف بـ "الميراث الكبير".
وتشير التقديرات إلى أن نحو 9 تريليونات يورو من أصول الأسر الفرنسية ستنتقل إلى الورثة بين عامي 2025 و2040.
هذا الحدث، رغم كونه طبيعيًا من الناحية الديموغرافية، يحمل في طياته تحديات كبرى: من خطر تفاقم عدم المساواة، إلى إشكاليات الضرائب، وصولاً إلى تأثيره على سوق العقارات والقدرة الشرائية للأجيال الشابة.
فبحلول عام 2040، يُقدّر أن نصف ثروات الفرنسيين ستنتقل من جيل إلى آخر خلال فترة لا تتجاوز 15 عاماً.
وبحسب دراسة حديثة صادرة عن مؤسسة جان جوريس، سيصل حجم هذه التحويلات إلى أكثر من 9 آلاف مليار يورو ما بين 2025 و2040، أي ما يعادل نحو 677 مليار يورو سنويًا.
ويرتبط هذا التحول التاريخي أساسًا بالعامل الديموغرافي، إذ إن رحيل جيل "طفرة المواليد" أصبح أكثر وضوحًا في الإحصاءات. ففي حين كان عدد الوفيات في فرنسا مستقرًا عند حوالي 550 ألف حالة سنويًا بين عامي 1970 و2015، فقد ارتفع العدد إلى 650 ألفا العام الماضي. وتشير توقعات المعهد الوطني للدراسات الديموغرافية إلى أن الرقم سيتجاوز 800 ألف وفاة سنويًا ابتداءً من 2040.
إلى جانب العامل الديموغرافي، أدّت الزيادة الحادة في أسعار العقارات وارتفاع القيم البورصية إلى تضخم حجم الثروات المتداولة عبر الميراث.
ويشير الباحث أندريه ماسون، مدير الأبحاث في CNRS وأستاذ في EHESS، إلى أن "قيمة الثروات تعادل اليوم 6 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بثلاثة أضعاف فقط في سبعينيات القرن الماضي". ويضيف أن هذه الثروات متركزة بشكل أساسي لدى كبار السن، حيث يمتلك من هم فوق سن الـ60 نحو 60% من الثروات العقارية والمالية، رغم أنهم لا يشكلون سوى ربع سكان فرنسا.
كما أن "الورثة يحصلون على نصيبهم في عمر متأخر"، كما تقول الباحثة ميلاني بلوفييه، مؤلفة كتاب "اللامساواة في الميراث". ففي عام 1820 كان متوسط عمر الوريث 25 عامًا، أما اليوم فقد وصل إلى 60 عامًا.
من جانبها، قالت سيلين بيسيير أستاذة علم الاجتماع في جامعة باريس-دوفين لـ"العين الإخبارية": إننا أمام لحظة فارقة في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي لفرنسا.
واعتبرت بيسيير أن انتقال ثروة بهذا الحجم، أي ما يعادل تقريبًا ستة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي، لا يمكن اعتباره مجرد ظاهرة عابرة، بل هو زلزال صامت سيؤثر في البنية الطبقية للمجتمع الفرنسي.
ورأت بيسيير أن الخطورة تكمن في أن هذا الميراث الكبير لن يُوزّع بالتساوي؛ فالعائلات الميسورة ستزداد غنى، في حين أن الأسر محدودة الدخل ستظل على الهامش، مما يؤدي إلى تعميق الهوة بين الطبقات الاجتماعية.
وتابعت:"نحن نعلم من الأبحاث الاقتصادية أن 80% من الميراث يذهب إلى 20% من العائلات الأكثر ثراء".
وأشارت الباحثة السياسية الفرنسية إلي أنه من جانب آخر، يُشكّل هذا التحول تحديًا كبيرًا أمام سياسات العدالة الضريبية، موضحة أن الضريبة على الميراث تُعتبر من أكثر الضرائب المكروهة لدى الفرنسيين، ولكنها أداة ضرورية إذا أردنا الحد من اللامساواة.
ورأت بيسيير أن المشكلة أن الرأي العام الفرنسي يبالغ في تقدير حجم هذه الضريبة، رغم أن نسبتها الفعلية منخفضة نسبيًا مقارنة بالدول الأخرى.
ووفقاً للباحثة السياسية الفرنسية فإن سوق العقارات يواجه ضغوطًا شديدة، فإن ارتفاع قيمة المنازل يرفع حجم الميراث، لكنه يجعل من شبه المستحيل على الشباب غير الوارثين دخول سوق السكن، وبهذا يصبح الميراث شرطًا أساسيًا لتملك العقار، وهو ما يُعيد إنتاج الفوارق الطبقية.
وشددت الباحثة المتخصصة في علم الاجتماع على الدولة الفرنسية أن تنظر إلى هذه المرحلة ليس فقط من زاوية الضرائب، بل أيضًا من زاوية العدالة الاجتماعية والاستقرار السياسي. فالمجتمعات التي تتسع فيها فجوة الثروة تصبح أكثر عرضة للتوترات والاحتجاجات.
وقالت :"أعتقد أننا نحتاج إلى إصلاح شامل لنظام الميراث والضرائب، وربطه بسياسات اجتماعية داعمة للشباب: مثل تسهيلات في القروض العقارية، وبرامج لتمويل المشاريع الناشئة، حتى لا يصبح الجيل القادم أسيرًا لثروات الأجداد".
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMiA= جزيرة ام اند امز