حقبة الحمائية الأمريكية.. هل أصبح الترابط الاقتصادي أداة إكراه؟

منذ يونيو/حزيران الماضي، حين أعلنت أمريكا عن «اتفاق إطاري» مع الصين، دخل الاقتصاد العالمي مرحلة جديدة.
هذا ما توصل إليه تحليل نشرته مجلة فورين أفيرز. وبحسب التحليل -الذي كتبه كل من هنري فاريل، أستاذ الشؤون الدولية بجامعة جون هوبكينز وأبراهام نيومان أستاذ بكلية الحكومة بجامعة جورجتاون الأمريكية- لم يعد الصراع بين القوى الكبرى يدور حول النفوذ العسكري فقط، بل تحوّلت أدوات الاقتصاد -من سلاسل التوريد إلى الأنظمة التقنية- إلى أسلحة جيوسياسية. وهذا العصر الجديد يعرف باسم "الاعتماد المتبادل المسلح"، حيث يُستخدم الترابط الاقتصادي نفسه كأداة إكراه.
السلاح الاقتصادي يصيب مطلقيه
وكانت الولايات المتحدة، لعقود، الطرف الفاعل في استخدام الأدوات الاقتصادية -مثل العقوبات، والقيود التكنولوجية، وشبكات التمويل- لفرض إرادتها. لكن التوازن بدأ يختل. فقد اضطرت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤخرًا لتقديم تنازلات في ملف أشباه الموصلات مقابل تراجع الصين عن تقييد تصدير المعادن الأرضية النادرة، التي تُعد شريانًا حيويًا للصناعات الأمريكية. وباتت واشنطن تواجه ما كانت تستخدمه سابقًا كسلاح: نقاط الاختناق في سلاسل الإمداد والتكنولوجيا المتقدمة. أما الصين، من جانبها، فقد طوّرت أدواتها للرد، مستخدمة قوانين تصدير جديدة ونفوذها في سوق المعادن النادرة للضغط على الغرب.
الصين.. تطور بالغ
وبدأ التحول الصيني عام 2013، عقب تسريبات سنودن التي كشفت عن التجسس الأمريكي الرقمي. ثم جاء الحظر الأمريكي على هواوي وZTE ليعزز قناعة بكين بضرورة الانفصال عن التكنولوجيا الغربية. فتبنّت خطة استراتيجية لتجاوز "الاختناقات التقنية"، وأصدرت قوانين مماثلة لتلك الأمريكية، تسمح لها بتقييد التصدير لأهداف أمنية. وفي 2024، استخدمت بكين هذه الأدوات للضغط على أوروبا والولايات المتحدة. ودقت شركات مثل مرسيدس وBMW ناقوس الخطر بسبب نقص في المغناطيسات الضرورية، ما أدى إلى تحركات سياسية عاجلة. وهكذا، انقلب السلاح الاقتصادي على مُطلقيه.
أوروبا.. عملاق مكبل
ورغم امتلاك أوروبا أدوات جيواقتصادية قوية -مثل نظام SWIFT، وشركات تكنولوجيا استراتيجية- إلا أنها تفتقر إلى جهاز مؤسسي يدمج التجارة بالأمن القومي. وبينما يتحدث المسؤولون الأوروبيون عن مواجهة "الإكراه الاقتصادي"، فإن آلياتهم -مثل "أداة مكافحة الإكراه"- معطلة بفعل الشروط القانونية والبيروقراطية.
وقد كانت التجربة الليتوانية عام 2021، حين عاقبتها الصين بسبب موقفها من تايوان، كاشفة عن الوضع الأوروبي إلى حد كبير. فقد كشفت الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي، حيث ضغطت الشركات الألمانية ضد المواجهة، وغلبت المصالح التجارية الموقف السياسي. فأوروبا، ببساطة، لا تزال تتردد بين واشنطن وبكين.
الولايات المتحدة.. تفكك داخلي وسوء إدارة
وفي واشنطن، يواجه "السلاح الاقتصادي" تحديات من نوع مختلف. فقد خفّضت إدارة ترامب عدد موظفي مؤسسات حساسة مثل مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC)، وألغت برامج تمويل وتحليل سياسات الأمن الاقتصادي. حتى مجلس الأمن القومي خسر نصف طاقمه، ما أدى إلى قرارات مرتجلة وغير منسقة. وفي قطاع الطاقة، تخلت واشنطن عن قيادة التكنولوجيا النظيفة، مفضّلة العودة إلى الكربون، مما منح الصين ميزة السبق في تكنولوجيا المستقبل. وحتى في العملات الرقمية، رفعت العقوبات عن منصات متهمة بغسل أموال، ما أضعف الثقة في النظام المالي الأمريكي.
ولطالما مثّل "المكدس الأمريكي" -أي منظومة الشركات والتقنيات والمؤسسات المالية- نقطة جذب للدول، رغم مخاطره. لكن مع تسليح هذه المنظومة بشكل مفرط، بدأت الدول -حتى الحليفة منها- بالبحث عن بدائل. أما الصين فهي تطور شبكات دفع رقمية مستقلة، وأوروبا تحاول بناء منظومتها، في حين تتزايد شكوك الحلفاء في مصداقية واشنطن.
رئيس وزراء كندا السابق مارك كارني وصف ذلك بدقة: "الولايات المتحدة بدأت تبيع هيمنتها كسلعة."
ونصح التحليل بأنه إذا أرادت أمريكا الحفاظ على موقعها، فعليها استعادة توازنها المؤسسي. كما تعاملت سابقًا مع الردع النووي ببناء مؤسسات استراتيجية، يجب عليها اليوم بناء جهاز بيروقراطي مرن قادر على إدارة "الاعتماد المتبادل المسلح". هذا يتطلب: إعادة تمويل ودعم المؤسسات التحليلية؛ إنشاء قواعد قانونية لاستخدام الأدوات الاقتصادية؛ والعمل مع الحلفاء ضمن نظام قائم على الشفافية، لا الإكراه.
فالعالم لم يعد يتقبل الهيمنة الأمريكية غير المقيدة. وإذا استمرت واشنطن في تجاهل هذه الحقيقة، فإن "سلاحها الاقتصادي" قد يتحوّل إلى عبء استراتيجي، ويفقدها ما تبقى من نفوذها.
وخلص التحليل إلى أنه اليوم نعيش في عالم لم يعد فيه الترابط الاقتصادي ضمانًا للسلام، بل ساحة صراع. وكل شبكة -من الإنترنت إلى المعادن- قابلة للتسليح. فهل تعيد واشنطن حساباتها وتبني نظامًا جديدًا أكثر توازنًا؟ أم تواصل سياسة الانفراد وتفقد السيطرة؟ الإجابة، كما يبدو، تقترب أسرع مما تتوقع.