تحليل العلاقة بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والتركي رجب أردوغان في فترة التدخل العسكري التركي في شمالي سوريا
العلاقة بين الرئيس الأمريكي "ترامب" والرئيس التركي "أردوغان" هي علاقة مُعقدة ومُركبة، ففي بعض الأحيان يتبادلان الاتهامات والعبارات القاسية التي تتجاوز الخلافات السياسية لتمُس الشخص ذاتة حتى يبدو الأمر وكأن القطيعة بينهما حادثة لا محالة، وفي أحيان أُخرى تسود المودة والتقدير المُتبادل بين الرجلين, وينسى أو يتناسى كُل منهما ما حدث في أوقات أو في ظروف الخلاف.
وسوف أُركز في هذا المقال على تحليل العلاقة بين الرجُلين خلال فترة التدخل العسكري التركي في سوريا، والذي بدأ يوم 9 أكتوبر 2019 وحتى الاتفاق التركي الأمريكي، الذي وقعه مايك بنس يوم 17 من الشهر نفسه, بتحليل التغريدات والتصريحات التي أدلى بها ترامب وتغير نبرتها ومضمونها من يوم لآخر.
لا بد أن القارئ لاحظ الاختلافات -بل أحيانا التناقضات- بين تصريح وآخر، ونستطيع أن نفهم ذلك في ضوء أن ترامب يسعى إلى تحقيق المصالح الأمريكية ويوظف العلاقة مع أي دولة أو طرف آخر لتحقيق تلك المصالح
انتقد الرئيس ترامب العملية العسكرية وأعرب عن عدم موافقته عليها، بل إنه حذّر منها قبل بدايتها، فقد تضمن الخطاب الذي أرسله ترامب إلى أردوغان بتاريخ 9 أكتوبر, قُبيل بدء العملية العسكرية بساعات عبارات قاسية وموجعة، تكون الخطاب من ثلاث فقرات، كُتبت عباراتها بشكلٍ مُباشر وغير دبلوماسي.
فالخطاب يبدأ بالقول "دعنا نعقد صفقة جيدة. إنك لا تريد أن تكون مسؤولًا عن ذبح آلاف الناس, كما إنني لا أريد أن أكون مسؤولًا عن تدمير الاقتصاد التركي. وأنا أستطيع أن أفعل ذلك". وذكّره بأنه لن يتردد في توقيع عقوبات اقتصادية على تركيا كما فعل في أزمة القِس برونسون حتى تم إطلاق سراحه. ثُم بدأ الفقرة الثانية بأنه "لقد عملت كثيرا لحل بعض مشاكلك"، وأنه تفاوض مع القائد العسكري الكردي "مظلوم" وحصل منه على وعود وتنازلات لم يسبق أن قدمها. ونصحه في الفقرة الثالثة بأن التاريخ سوف يذكره على نحو إيجابي إذا تصرف بشكل صحيح وإنساني, أو سوف يذكره كشيطان إذا لم يفعل ذلك". وأنهى ترامب خطابه لأروغان بقوله "لا تكون صلفاً, ولا تكون أحمق! وسوف أُخابرك تليفونيا لاحقًا". ولتأكيد صِدق الوعود الكردية أرفق ترامب صورة من خطاب "مظلوم عبدي" له، الذي ورد فيه هذه التعهدات.
تضمن هذا الخطاب تهديداً واضحاً بفرض عقوبات اقتصادية مستخدماً في ذلك كلمة "تدمير"، كما حذره في نهاية الخطاب بألا يكون أحمق. وكلاهما تعبير لا يُستخدم عادة في المراسلات بين رؤساء الدول، ظل هذا الخطاب سريا ثم سربته بعض الجهات الأمريكية دون تحديد المصدر حتى يوم 16 أكتوبر، عندما أكدت جريدة واشنطن بوست صحته، وعلق المتحدث الرسمي باسم الكرملين "ديمتري بيسكوف" بأن ما حدث هو "رسالة غير معتادة أبدا".
وفي اليوم الثاني للعملية العسكرية -أي 10 أكتوبر- غرد ترامب بأنه "سوف يضرب تركيا بشدة اقتصاديا بسلاح العقوبات إذا لم تلتزم بالقواعد"، وأنه يُراقب تطورات الأحداث عن كثب. وفي تغريدة أُخرى له في اليوم ذاته أكد مسؤولية تركيا في القبض على مقاتلي داعش الذين تمكنوا من الهروب من السجون الكردية.
لم يعلق أردوغان على هذه التهديدات. ولكن نائبه "فؤاد أقطاي" قام بهذه المُهمة. فصرح قائلًا "تركيا ليست دولة ترضخ للتهديدات, لدينا حق الدفاع عن أمننا القومي دون إذن من أحد, وتركيا لن تصمت على أي تهديد يواجهها أيا كان مصدره". كما قال إبراهيم قلين المتحدث الشخصي باسم أردوغان إنه أبلغ الأمريكيين رفض هذه الرسالة قلبا وقالبا، وأضاف ناطق دبلوماسي تركي أن أردوغان ألقى بالرسالة في سلة المهملات.
تكررت تهديدات ترامب في المكالمة التليفونية التي قام بها مع نظيره التركي يوم 14 أكتوبر، والتي طلب فيها الرئيس الأمريكي الوقف الفوري للعلميات العسكرية التركية في شمال شرق سوريا، والتي وصفها بـ"الغزو". وفقاً للمعلومات التي أدلى بها نائبه للصحفيين في اليوم نفسه، مضيفا "لقد كان الرئيس حازماً جدا.. لن تتسامح الولايات المتحدة الأمريكية ببساطة مع غزو تركيا لسوريا". وأوقف الرئيس الأمريكي المفاوضات التي كانت تجري مع تركيا لعقد اتفاق تجاري تبلغ قيمته 100 مليار دولار. وأصدر الرئيس أمراً تنفيذياً لوزير الخزانة يخوله سُلطة فرض عقوبات اقتصادية على تُركيا, والتحفظ على الأموال والممتلكات التركية في أمريكا, ومنع دخول بعض الشخصيات التركية إليها.
لكن ترامب, كان مُدركاً لأهمية تركيا ودورها الاستراتيجي, فكتب تغريدة في 13 أكتوبر يرد فيها على الأصوات التي طالبته باتخاذ موقف أكثر تشدداً، وتساءل متهكماً "هل يعتقد الناس أننا يجب أن نخوض حرباً مع دولة عضو في حلف الأطلنطي؟". وفي تغريدة أخرى أكد ترامب أن تركيا شريك تجاري رئيسي للولايات المتحدة، وأنها تقوم بتصنيع هياكل الصلب التي تُستخدم في إنتاج الطائرات الحربية فانتوم 35, وأنها ساعدتنا في إنقاذ أرواح الكثيرين في إدلب.
وتراوح موقف ترامب تجاه الأكراد، فأشار إليهم كحلفاء وفي الوقت نفسه أقر بالمخاوف الأمنية لأردوغان من وجودهم العسكري على الحدود التركية السورية، فصرح مرة بأن الأكراد قاموا بدور رئيسي في دعم الولايات المُتحدة والتحالف الدولي ضد داعش، وحاربت قواتهم مُقاتلي داعش في المُدن والبلدات التي سيطروا عليها بما فيها المدينة التي اتخذوها عاصمة لدولتهم وهي الرقة، لذلك كان أداؤهم العسكري والبسالة التي أبدوها محل تقدير ومدح من ترامب. وعلى سبيل المثال ففي اليوم السابق لبدء العملية العسكرية التركية, أي يوم 8 أكتوبر, وصفهم في تغريدة له أنهم "شعب متميز ومقاتلون رائعون, وأن الولايات المتحدة لم تتخلّ عنهم بأي شكل من الأشكال". وأكد في أكثر من مناسبة رغبة القادة الأكراد في سوريا في عدم المواجهة العسكرية مع تركيا، وأنهم يسعون إلى اتفاق سياسي معها.
ورغم هذا التقدير, فقد اتخذ الرئيس الأمريكي موقفاً مغايراً في تصريح له في 16 أكتوبر/تشرين الأول، فأشار إلى أن "الأكراد ليسوا ملائكة" وأنهم محميون الآن بصورة أكبر مما كانوا عليه. وذكر أن الأكراد حصلوا على الكثير من المال والسلاح والذخائر لقاء مشاركتهم في القتال ضد داعش, وأنهم فعلوا ذلك تحقيقاً لمصالحهم، فخاطب مستمعيه فقال "إنهم يحاربون من أجل أرضهم.. عليكم أن تفهموا ذلك". تفهم ترامب أيضاً مشاعر عدم الثقة والكراهية المتبادلة بين الأتراك والكُرد, وأنهم يُحاربون بعضهم بعضاً على مدى عقود طويلة، وسجل أنه "ثمة كراهية حقيقة.. الأمر أشبه بالعلاقة بين إسرائيل والفلسطينيين". وساوى ترامب بين تركيا والأكراد عندما صرح مرة بأنهما "مثل ولدين.. عليك أن تدعهما يتقاتلان".
ووصل الأمر به إلى القول إن "حزب العمال الكردستاني -وهو جزء من الأكراد- كما تعلمون رُبما يُمثلُ خطراً إرهابياً أكثر من داعش"، وهو تقدير يتسق مع آراء أردوغان، وهي الآراء التي استخدمها لتبرير العدوان التركي على مناطق الحدود. وتوقف أغلب المحللين أمام هذه المقارنة المبالغ فيها، ثم أضاف ترامب عبارة غامضة يمكن لكل طرف أن يفهما على النحو الذي يريده فقال "إن الوضع معقد للغاية، ولكنه ليس معقداً للغاية إذا كنت ذكياً.. ولكني أعتقد أن المشكلة ما زالت تحت السيطرة جيداً".
لم تستغرق المفاوضات بين نائب الرئيس الأمريكي والقادة الأتراك بما فيهم أردوغان سوى عدة ساعات، انتهت بتوقيع الاتفاق على وقف إطلاق النار وانسحاب المسلحين الأكراد من المنطقة الآمنة التي حددتها تركيا، وبمجرد توقيع الاتفاق أعلن ترامب وقف البحث في أي عقوبات، ووجّه الشكر للرئيس أردوغان على إنقاذ ملايين الأرواح ووصفه "بالصديق المقرب".
لا بد أن القارئ لاحظ الاختلافات -بل أحيانا التناقضات- بين تصريح وآخر، ونستطيع أن نفهم ذلك في ضوء أن ترامب يسعى إلى تحقيق المصالح الأمريكية ويوظف العلاقة مع أي دولة أو طرف آخر لتحقيق تلك المصالح.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة