يستحقُ الترحيبَ، من دون شك، الموقف الذي اتخذته الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية في ندوة "مواجهة التطرف الفكري: الواقع والمأمول"، الذي عُقد بالكويت من 15 إلى 17 يناير الماضي
يستحقُ الترحيبَ، من دون شك، الموقف الذي اتخذته الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية في ندوة "مواجهة التطرف الفكري: الواقع والمأمول"، الذي عُقد بالكويت من 15 إلى 17 يناير الماضي، إذ تبنت الأمانة العامة مقترحاً تضمنته ورقة عمل قُدٍّمت في الندوة، بإنشاء "جيش إلكتروني خليجي" يتولى مهمة التصدي لأفكار الإرهاب ومواقعه وتجمعاته على شبكة الإنترنت.
ربما كانت فكرة "الجيش الإلكتروني الخليجي" تهدف بشكل رئيسي إلى مواجهة الإرهاب الإلكتروني الذي يستهدف المؤسسات والشركات الحكومية مثل ما فعل فيروس "شمعون2" ومن قبله "شمعون1" اللذان استهدفا عدداً من المؤسسات والشركات في دول الخليج. الأمر الذي أظهر الحاجة إلى توظيف كل الخبرات والجهود لمواجهة هذا النوع من الفيروسات.
من الدلالات المهمة أيضاً لهذا المقترح، أن الفعاليات الفكرية والثقافية في بلدان الخليج لم تعد صرخة في واد لا تجد صدى، ولم تعُدْ مؤسسات الفكر منفصلة عن الواقع العملي، إذ أصبح صناع القرار ومتخذوه يعتمدون عليها بصورة كبيرة في رسم الاستراتيجيات والسياسات وتحديد الخطوات المستقبلية. ويمثل ما سبق دليل صحة وعافية سياسية ومجتمعية يستحق الإشادة، فالبحث في خدمة المجتمع، والعلم في خدمة القرار السياسي، والنظرية تجد طريقها إلى التطبيق ما دامت تشخص المشكلات وتضع الحلول، وليست هناك تلك الفجوة التي تفصل بين القائد أو المسؤول من جهة، والمفكر أو الأكاديمي أو المتخصص من جهة ثانية.
غير أن عمل الجيش الإلكتروني المنشود يمكن أن يتوسع، فلا يقتصر على الهدف السابق، إذ يمكن توظيفه أيضاً في محاربة التطرف ومحاصرته وتجفيف منابعه، ومن ثم فإنه يمكن أن يتحول إلى وسيلة "فاعلة" لا "منفعلة"، تبادر ولا تكتفي بردود الأفعال.
هناك اتفاق على أن شبكة الإنترنت أثرت في كل مجالات الحياة، لكن الأمر الذي لم يصبح واضحاً بعد هو القوة الهائلة التي تجعل هذا التأثير قادراً على قلب الموازين وتحريك المواقف والآراء من النقيض إلى النقيض بفعل استغلال الكم الهائل من البيانات الشخصية والمعلومات المبذولة التي يتبرع بتقديمها مليارات البشر عن أنفسهم على شبكة الإنترنت وعلى وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف أنواعها. ويتم ذلك عن طريق المزج بين علم النفس وتحليل السلوك الإنساني ودوافعه واتجاهاته من جهة، والقدرات التقنية المتعلقة بأرشفة كمية هائلة من البيانات والمعلومات الشخصية وتصنيفها، للوصول إلى نماذج عامة للسلوك الإنساني الذي يحكم اتخاذ موقف معين، ومن ثم يمكن التحكم في فئات من الناس وتغيير مواقفها وقناعاتها بتطوير خطاب يراعي النقاط التي يمكن من خلالها التأثير عليهم، وربما تحويلهم من النقيض إلى النقيض.
تقدم دراسة ترجمتها مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" عن الألمانية ونشرتها على موقعها الإلكتروني، نموذجاً مخيفاً لهذا الامتزاج القادر على إحداث انقلابات كبرى في العالم، وقد حملت الترجمة اسم "الإعلام الرقمي ودوره في التحكم بالرأي العام". وتوضح الدراسة أن انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية وخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، بما ترتب عليهما من نتائج امتدت إلى كل أنحاء العالم، كانا من ثمار هذا المزيج بين الإمكانيات التقنية وحقائق علم النفس التي اعتمدت على الـ"بيغ داتا" التي توفرها وسائل التواصل الاجتماعي. وكلا الحدثين كان اختراقاً هائلاً كشف عن فشل التوقعات وقياسات الرأي التي لم تكن ترجح حدوث أي منهما. وقد وقفت وراء الحدثين مؤسسة تسمى "شركة كامبردج للتحليلات"، عملت بدأب على تغيير مواقف كتل من الناخبين، ولاسيما الذين لم يحسموا اتجاههم، إذ تم تصنيفهم إلى فئات بناءً على دراسة سلوكهم عن طريق جمع بياناتهم، ومن ثم جرى إنتاج خطاب تسويقي يتوافق محتواه مع رغباتهم ليجتذبهم إلى معسكر ترامب ومعسكر مؤيدي خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. والغريب أن عالم النفس ميشال كوزنيسكي الذي طور من الأصل هذه الطريقة لقياس السلوك قد صُدم بالمجالات التي تم استخدامها فيها على أرض الواقع، وما أفرزته من نتائج في تطبيقاتها الأولى.
لنا أن نتصور في هذا العصر الذي يجري فيه تناقل المعرفة بسرعة، أن التنظيمات الإرهابية قررت الاستفادة من هذه التقنية، واستخدمت الـ"بيغ داتا" في تحديد عشرات الآلاف من العرب والمسلمين، وربما مئات الآلاف، ممن تشير بياناتهم إلى استعدادهم لقبول أفكار متطرفة. وجدير بالذكر أن هذا الاستعداد لا يتم قياسه من خلال إعلان صريح من المستخدم عن آرائه، بل من خلال تفضيلات يمكن أن تبدو غير ذات دلالة، مثل الصورة الشخصية المحايدة أو الإعجاب بفريق رياضي أو عمل فني معين، أو الانتماء جغرافياً إلى منطقة بعينها، وربما لا يكون الشخص نفسه مدركاً لاستعداده للتطرف، لكن القراءة السلوكية القائمة على أسس علمية ربما تتمكن من رصد هذا الميل وتغذيته بإنتاج خطاب ملائم للمرحلة التي يمر بها الشخص، وتغييره وفقاً للتطورات والنماذج، ليجد الإنسان نفسه في النهاية يتناغم مع التطرف ويؤيد الإرهاب وقد يلتحق بأحد التنظيمات الإرهابية التي تحمل السلاح وتقوض الأمن وتنشر الرعب.
من هنا يكتسب المقترح الخليجي أهميته، ولاسيما أنه يدعو إلى وضع استراتيجيات لمكافحة الإرهاب عبر الإنترنت، وإنشاء مرصد إلكتروني يكون أداة لمراقبة الحسابات الإرهابية والهشتاقات المتطرفة، وإنشاء جيش إلكتروني يتكون من خبراء تقنيين ونفسيين واجتماعيين وشرعيين لتحليل المعلومات التي تم جمعها. وهذا الحديث المجمل يجب أن ينعكس في صورة خطط وتصورات تفصيلية واضحة، وتحدد الموارد البشرية والتقنية والمالية اللازمة لمواجهة المعركة الصعبة. وإذا كان استخدام "داعش" لوسائل التواصل الاجتماعي في الحشد والتجنيد قد أثبت فاعلية ونجاحاً خلال السنوات الثلاث الأخيرة وتسبب في كثير من الخسائر والاستنزاف لدول المنطقة وهدد بقاءها ووحدتها واستقرارها، فإن التطور الذي تحدثنا عنه قبل قليل يُنذر بتحديات وتهديدات ومستقبلية تختلف جذرياً عما واجهناه من قبل.
إن ارتفاع مستوى التعليم في بلدان مجلس التعاون، والإقبال الكبير على التخصص في التقنيات والمعلوماتية يجعل الموارد البشرية الخليجية اللازمة لهذا الجيش الإلكتروني متاحة مبدئياً، كما أن ما أبداه أبناء دول المجلس من وعي ومن انخراط طوعي في جهود الدفاع عن بلدانهم وتعضيد أمنها وحمايته نقطة قوة في هذا الصدد، فالصف الوطني ملتئم على مستوى كل دولة على حدة، وعلى مستوى المجلس الذي تعمق الإحساس بالانتماء إليه بصورة أكبر خلال السنوات الخمس الأخيرة. والموارد التي سيتم رصدها ستحقق مردوداً أعلى بكثير، وستضيف أبعاداً جديدة إلى دور القيادة الذي تضطلع به دول الخليج العربية على المستويين العربي والإسلامي.
هذا الجهد في إنشاء "الجيش الإلكتروني الخليجي" جزء من المعركة مع التطرف والإرهاب، لكن الأدوات الأخرى لمكافحة التطرف الفكري يجب أن تحظى بالعناية التي تستحقها، إذ يلزم أن تتواصل جهود تطوير التعليم وتنقية المناهج الدراسية من كل ما يضع أسساً للتطرف أو كراهية الآخرين، وتنمية قدرات التعلم الذاتي والتفكير الناقد، واعتماد الطرائق والوسائل التي تشجع الحوار وبناء الشخصية المتوازنة. وبالقدر نفسه يجب أن تستمر جهود ترشيد الخطاب الديني وتطويره، وإنهاء فوضى المنابر والفتاوى، وإنشاء المؤسسات التي تُعنى بنشر التسامح وتشجع على الحوار، مثل "صواب" و"هداية" في دولة الإمارات.
ويبقى الحصن الحصين لأي مجتمع هو إحساس أبنائه بأنهم جميعاً ينالون ثمار التنمية، ويستفيدون من خيرات بلدهم الذي يحرص على رعاية جميع مواطنيه دون أي تمييز أو تفرقة، ففي هذه الحالة يكون كل أبناء الوطن جنوداً يدافعون عنه ضد كل من يهدد أمنه، وأياً كانت الوسيلة أو ميدان المواجهة.
*نقلاً عن "صحيفة الحياة"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة