نحن أمة تختنق بهؤلاء المنحرفين عن طريق الإسلام السوي، فهذا الدين لم يكن في يوم من الأيام دين دعوة إلى العنف والقتل وإبادة الجنس البشري
قبل عام من الآن، في مثل هذه الأيام، في هذا المكان، في هذه المناسبة، مناسبة عيد الأضحى المبارك، كتبت تحت عنوان «أمة تنتحر»:
(نحن أمة تنتحر، والتعبير ليس من عندي، وإنما هو للشيخ عبدالله بن بيّه، أحد أكبر علماء الأمة المعاصرين.. وقد جاء وصفه هذا في مجال تشخيصه حال الأمة الذي قال إنه كارثي).
يومها لامني بعض الإخوة والأصدقاء، وقالوا إن نظرتي تشاؤمية، وعاتبني البعض قائلاً إنني ضيقت هامش الأمل كثيراً، ولم أنظر إلى نصف الكأس الممتلئة، بينما قال البعض إنهم يوافقون رأي الشيخ العلامة عبدالله بن بيّه، الذي يمثل الاعتدال بين علماء الأمة الإسلامية في هذا الزمن، الذي طغى فيه التطرف والتشدد على الاعتدال والوسطية، وانتشر فيه تكفير المعتدلين من علماء الأمة وأفرادها الذين ينبذون أفكار المتطرفين، ناهيك عن تكفير أصحاب الديانات الأخرى، واستباحة دمائهم، والدعوة لقتلهم وإبادتهم، وكأن الإسلام جاء لإبادة الجنس البشري ومحو أصحاب الديانات والملل الأخرى من على ظهر البسيطة، وهو ما لم يرد في دستور هذا الدين العظيم، الذي يدعو إلى فتح حوارات مع الآخرين، فيحض رسوله الكريم على الدعوة إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ومجادلة الآخرين بالتي هي أحسن، ويقرر أن الله سبحانه وتعالى أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين. فمن أين أتى هؤلاء المتطرفون بهذه الأفكار الظلامية، وإلى أين هم ذاهبون بهذه الأمة التي تختنق بهم؟
نحن أمة تختنق بأفكار هؤلاء المارقين، وهم يدّعون زوراً وبهتاناً أنهم يمثلون الأمة، وأن غيرهم من المسلمين ليسوا إلا خارجين عن الملة والنهج القويم، وكأنهم هم من تلقى الوحي من السماء، أو من كُلِّف بأداء الرسالة وهداية البشر.
نعم، نحن أمة تختنق بهؤلاء المنحرفين عن طريق الإسلام السوي، فهذا الدين لم يكن في يوم من الأيام دين دعوة إلى العنف والقتل وإبادة الجنس البشري، ولا هو دين دعوة إلى ترويع الآمنين وزعزعة أمنهم واستقرارهم، ولا هو دين تشدد يسد على البشر مسالك الحياة، ويحصرهم في دائرة ضيقة تمنعهم من التنعم بالطيبات التي أباحها الله لهم، لأنه الدين الذي يدعو أتباعه لأن يعملوا لدنياهم كأنهم يعيشون أبداً، وأن يعملوا لآخرتهم كأنهم يموتون غداً.
نعم، نحن أمة تختنق بأفكار هؤلاء المارقين، وهم يدّعون زوراً وبهتاناً أنهم يمثلون الأمة، وأن غيرهم من المسلمين ليسوا إلا خارجين عن الملة والنهج القويم، وكأنهم هم من تلقى الوحي من السماء، أو من كُلِّف بأداء الرسالة وهداية البشر.. وحين تصل درجة الاختناق إلى نهايتها القصوى يصبح هناك طريقان فقط أمام من يختنق، فإما أن ينفجر في وجه من يخنقه، وإما أن يستسلم له ويموت موتاً بطيئاً لا حياة بعده.
ولا نعتقد أن الخيار الثاني هو الأنسب لهذه الأمة التي مرت بفترات عصيبة على مدى تاريخها، حاول خلال بعضها الخوارج أن ينحرفوا بها عن نهجها القويم ويقضوا على رموزها فلم ينجحوا، وحاول خلال بعضها الآخر أصحاب الميول الطائفية المتطرفة أن يفرضوا أفكارهم على بقية أفراد الأمة بالعنف والقوة، وشكلوا فرق اغتيالات أرسلوها لقتل الحكام والولاة وأصحاب الوزارات، نجح بعضها في تنفيذ مهمته، وفشل بعضها الآخر، لكن أثرها كان محدوداً جداً، فلم تغير نظاماً، ولم تُسقط دولة، ولم تزحزح صاحب مشروع عن مكانه، أو تمنعه من المضي في تنفيذ مشروعه.
نعم، نحن أمة تختنق بطغيان هؤلاء المهووسين، العاشقين مناظر القتل ورائحة الدماء، الذين يحاولون استعادة ماضٍ مظلم من تاريخ الأمة، ويعيدوننا سنوات إلى الوراء، بينما العالم كله يتقدم ذاهباً إلى الأمام، تاركا وراءه المتخلفين الذين لا يريدون ركوب عربة العصر التي ترفض المتقاعسين المتشبثين بأفكارهم الظلامية المتحجرة، الذين يظنون أنهم وحدهم من يملك الحقيقة، وغيرهم في ضلال مبين، غير مدركين أنهم هم الخارجون عن الفطرة السليمة، لأن القاعدة تقول إنه لا يصح إلا الصحيح، وإن كل ما عدا ذلك مرحلي وزائل، حتى لو طال أمد المحنة.
حدث هذا في الماضي، ويحدث هذا في الحاضر، وسيحدث في المستقبل، لأنه لا بقاء إلا لما هو قائم على الحق والعدل والسلام.
نعم، نحن أمة تختنق وتعاني وتحترق، لكننا مؤمنون بأن هذا الاختناق صحي، وأنه سيجعلنا ننتفض على الذين يخنقوننا، ويضعوننا في زاوية ضيقة، ويطبقون على أنفاسنا، فليس بعد الشدة إلا الفرج، وليس بعد العسر إلا اليسر، وليس بعد الاختناق إلا الانطلاق، لأننا أمة تمرض، لكنها لا تموت.
نقلا عن "البيان"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة