حمور زيادة لـ"العين الإخبارية": "الغرق" رمز لتورط الإنسان وتخبطه في الحياة
"العين الإخبارية" تحاور الكاتب والروائي السوداني حمور زيادة حول عالم ورمزية روايته الصادرة أخيرا "الغرق".
في روايته الصادرة أخيرا "الغرق" شكّل الروائي السوداني حمور زيادة قرية مُتخيلة أطلق عليها "حجر نارتي"، منحها بشرا وحكايات، ونهرا يشهد على الونس والقهر والغرق والانتظار، تنطق جميعها بلسان سوداني يُخلص له صاحب الرواية على مدار مشروعه الأدبي.
في حواره مع "العين الإخبارية" يضيء حمور زيادة بحديثه على ثيمة "الغرق"، ورمزيتها، وانتصاره للخيال في الرواية ومفهوم الونس والحكي، ويكشف في حواره عن مشروعه الكتابي الذي من بينه روايتا "الكونج"، و"الغرق – حكايات القهر والونس"، على أن تكون هناك روايتان أخريان حسب المخطط عن ذات المنطقة والحياة، ويقول إنه مشروع مختلف عما كتب في روايته الذائعة "شوق الدرويش" التي حازت على "جائزة نجيب محفوظ للأدب" عام 2014، ووصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر" لعام 2015.
فإلى نص الحوار.
في البداية قد يعتقد القارئ أنه بصدد رواية تتتبع لغز فتاة غارقة، حتى يُدرك أن "الغرق" هو ثيمة ومظلة لشخوص الرواية على مدارها.. كيف جعلت "الغرق" بكارثيته ورمزيته هو ما يتجمع حوله أهالي روايتك، ويُفرقهم؟
الأدب هو عملية "ترميز" للحياة، لذلك فإن كل كاتب يبحث دائماً عما يعبر به رمزاً عن الحالة التي يريد، في رواية " الغرق – حكايات القهر والونس" كانت فكرة تورط الإنسان في هذه الحياة وتخبطه فيها كالغريق بين الأمواج هي المسيطرة عليّ، خاصة مع وجود النيل الذي يرمز في حيواتنا دائماً للاستمرارية والديمومة.
بداية الرواية بحادثة موت قريب من بدايات "الكونج" و"شوق الدرويش"، هل ترى في مشاهد الموت والصدمة المرتبطة بها بوابتك الأوسع للدخول إلى عالم النص؟
لا أدري.. أنا مولع ببدايات الموت جدا لسبب ما، ولاحظت ذلك بشدة في روايتي الجديدة التي أعمل عليها إذ تبدأ أيضاً عند موت. لكني عازم على تغيير ذلك. لا أعرف كيف، لكني سأفعل.
جعلت "النيل" كيانا فاتنا وقاتلا في الوقت نفسه، كيف تصف لنا علاقتك بهذا النهر الذي أصبح مُلهما لك؟
أخافه جدا.. كطفل كان يمثل لي الموت، في العاصمة حيث تقفز فوقه الجسور والكباري كان يبدو لي كصفحة موت تنتظر من يسقط من أعلى، كأنه وحش أسطوري محبوس في حفرة وينتظر التعساء الذين ستلقيهم إلى فمه الكباري.
ثم في عام 1988 شهدته ثائراً غاضبا، ترك مجراه واندفع إلى بيوت الناس واحتل الشوارع، كانت فيضانات العام 88 أولى فيضانات كبيرة تشهدها بلاد السودان بعد فيضان 1946، كان أمراً مخيفاً جداً أن نرى النيل يملأ الشوارع، يهوي بأعمدة الكهرباء ويهدم البيوت ويعطل الحياة، كنا نفتح أبواب بيوتنا لنمشي في الماء وهو يحاصر صدورنا، بينما يخوض فيه الكبار حتى أفخاذهم، مات أطفال غرقاً، ومات بعضهم بصدمات الكهرباء، أو عضتهم أشياء مجهولة في بطن الماء، كنا نسمع عن التماسيح التي تسللت مع الماء إلى شوارع أم درمان.
لم تكن علاقتي بالنيل جيدة في يوم ما، جربت الغرق فيه مرة فكرهت السباحة، لذلك هو كائن مخيف بالنسبة لي، لكن هذا لا يمنع أنه فاتن وساحر، هذا الشيء الذي يمشي هنا منذ زمن بعيد جدا، عندما كانت الصحراء الكبرى غابات مطرية، إنه هنا من قبلنا، لذلك يبدو حكيما كجد عجوز، والعجائز الحكماء دائما ساحرون وفاتنون.
الشخصيات النسائية في الرواية ذوات طابع ساحر من الصعب عدم الارتباط بسيرهن، هل من بينهن شخصيات واقعية استلهمت منها حكاياتك أم أنهن من بنات خيالك؟
المرأة عموما كائن ساحر وفاتن، المرأة هي الطبيعة ذاتها، بتقلباتها، واحتياجنا إليها، وجبروتها، وجمالها، وقدرتها على الخلق.
لا يمكن أن تكتب عن شيء جميل إلا لو كان فيه النساء، إنهن أساطير حية، لم أستلهم في الغرق شخصيات بعينها، لكني كتبت المرأة كما أحبها، وكما أخافها.
تناولت البُعد الاجتماعي للعبودية في الرواية، من خلال تناولك لأجيال مُتتالية عانت الرق وذله، كيف تمكنت من تتبع تلك الدارما لدى تناولك ذلك التاريخ؟
هناك توثيق لا بأس به في السودان لمسألة الرق، ليس وافياً وشافياً لكنه لا بأس به، كما أنني عايشت أجيالا من المنحدرين من تلك الجريمة اللاإنسانية، وشهدت العقد الاجتماعي الجديد الذي تشكل نحوهم، هذا شيء مزعج جدا بالنسبة لي، ألا يحصل الناس على المساواة، وهو حق محروم منه كثيرون، مثل السودانيين من أصول هندية، أو قبطية، أو إثيوبية، هي جاليات عاشت لعقود وقرون في السودان لكنها لم تحصل على مساواة مع المواطن العربي المسلم أو المواطن الأفريقي المسلم، لكن لهذه المجموعات بعض وسائل حماية، بينما مازال العقد الاجتماعي شديد الإجحاف في حق المنحدرين من أسلاف تعرضوا للاسترقاق، إنهم من يقهرهم حتى المقهورون.
"في الونس لا يهم ما حدث، بل يهم أن تكون الحكاية ممتعة حين تُروى".. هل هذا انتصار للحكي والخيال؟
بلا شك. ما قيمة الحقيقة الدنيوية في رواية؟ الرواية تشكل حقيقتها الخاصة من الخيال، الواقع سيئ، وبائس، وفوضوي، بعكس الخيال، ليس للواقع منطق، إنه عبثي بشكل مستفز. بينما الخيال منطقي ومفهوم، وإضافة إلى ذلك ممتع.
كيف تمكنت من خلال السرد من عدم تحول الرواية إلى حكايات متفرقة بين أزمنة مختلفة؟ هل مثّل لك ذلك تحديا خلال الكتابة؟
لم تكن تلك مشكلة، فلم أكن مهتماً بسرد تفاصيل وأحداث مطولة من الماضي بقدر التركيز على خلفيات الشخصيات، ترددت بين أكثر من أسلوب لتقديم هذه الخلفيات وربط ما حدث بما يحدث، ثم اخترت أسلوب السارد العليم الذي يحكى أكثر من حكاية على أزمنة متوازية تكمل الصورة للقارئ ليعرف كيف وصل هذا إلى هنا.
هل كان النجاح الساحق لـ"شوق الدرويش" يضع على كاهلك مزيدا من الضغوط وأنت تكتب "الغرق"؟
كان المهم بالنسبة لي ألا أكتب شوق درويش أخرى، وألا أتعمد ألا أكتب شوق درويش أخرى، كان لا بد أن يكون العمل مختلفاً، لكن في نفس الوقت كان لا بد ألا أتعمد ألا يكون فيه أي تشابه مع شوق الدرويش. كان عليّ أن أمتلئ بالحكاية التي أريد أن أحكيها وأنسى أي شيء غيرها وأكتب كأن ليس هناك أخريات، لذلك في مراجعة الرواية ترددت حين اكتشفت أني استعملت مفردة "درويش" في نهاية "الغرق" وكدت أسحبها، ثم تنبهت أن هذا هو التعمد غير المطلوب.
وهل تعتبر أن "الغرق" حلقة جديدة ضمن سلسلة مشروعك في الأدب السوداني؟
هي حلقة ضمن مشروع كتابي محدد غالبا سيكون من أربع روايات، صدر منها الكونج، والغرق – حكايات القهر والونس، وستكون هناك روايتان حسب المخطط عن ذات المنطقة والحياة، هذا مشروع مختلف عما كتبت فيه "شوق الدرويش".
aXA6IDE4LjExOS4yOC4yMTMg
جزيرة ام اند امز