إذاعة "نريد وطن" صوت من لا صوت له، وصرخة الثائرين في وادي الظالمين، لا يريدون سوى وطن يحتضن أحلامهم
الإذاعة هي شرط من شروط الثورات وكذلك الانقلابات في العراق، في سنوات طفولتنا وما بعدها كنا نصغي إلى الإذاعة لو أردنا أن نتأكد من نجاح هذه الثورة أو ذلك الانقلاب؛ لأن أول ما يقوم به الثوار أو الانقلابيون أيام زمان هو السيطرة على الإذاعة، ومن بعدها وزارة الدفاع ومنه بعدها الحكومة. المتظاهرون في ساحة التحرير أدركوا أن الإذاعة شرط من شروط نجاح احتجاجاتهم وإيصال صوتهم، لأنها الذراع الإعلامية التي تعبّر عن أخبارهم بأمانة وصدق، ما دامت الإذاعات الحكومية الرسمية والتابعة للأحزاب السياسية والمليشيات لا تنقل أخبارهم بحيادية واحترافية، بل تسعى إلى تشويهها وبث السموم حولها.
إذاعة "نريد وطن" صوت من لا صوت له، وصرخة الثائرين في وادي الظالمين، لا يريدون سوى وطن يحتضن أحلامهم في العيش الكريم لا أكثر ولا أقل، وكمن بين أحلام الشبان المشرفين على الإذاعة أن يتوفر لهم تردد للبث في عموم العاصمة والعراق وليس عبر مكبرات الصوت في ساحة التحرير
إذاعة "نريد وطن" بثت بيانها الأول الذي يلخص جوهرها، وفي الوقت ذاته هي مناجاة لكل شرفاء العالم "في ساعة لا تنتهي من توقيت التظاهرة العراقية، في دقيقة ممتدة، في لحظة لا نهائية.. في الساحة التي لا تموت بقلب كل عراقي، بصوت أكثر من ثلاثمئة شهيد (هذا العدد ارتفع إلى أكثر من 600 شهيد)، بنحيب أكثر من ثلاثمئة أم، بصوت آلاف الأصدقاء، بدموع عيونهم، بقناني -البيبسي- التي يحملون (يستخدم البيبسي أو الكولا في معالجة تهدئة العيون من آثار دخان القنابل المسيلة للدموع)، بصوت ملايين الذين نزلوا ليأخذوا حقوقهم، بالأحلام التي تسربت من دماء مصابيهم، بوطن.. بصوت الوطن.. بروح الوطن.. بمعنى الوطن.. بسلمية الوطن، نعلن انطلاق إذاعة المتظاهرين، إذاعة الوطن.. إذاعة: نريد وطن".
تأسست هذه الإذاعة بعد أن فقد الثوّار الثقة بالإعلام الحكومي، بجهود ذاتية للناشطين والمتظاهرين، من أجل توفير مصدر خبري وإعلامي لبث الأخبار الحقيقية عن الاحتجاجات والمطالب الشعبية وتفنيد الأخبار المفبركة التي يبثها الإعلام الرسمي، فهي ورديفتها صحيفة "توكتك" بداية لمشروع إعلامي مستقل من أجل دعم المتظاهرين؛ حيث تم تخصيص صفحة رسمية لها على موقع فيسبوك، لمّد جسور التواصل بين الإذاعة والمستمعين.
من حق الثوار الذين أسقطوا رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي أن يؤسسوا حلمهم في إيجاد صوت يعبّر عنهم، وامتد صوتهم إلى أوسع الجماهير؛ حيث أصبحت الحكومة تحسبُ لهم ألف حساب، وتحاصرهم وتقطع عليهم الإنترنت ووسائل الاتصال الأخرى، لذا تحولت هذه الإذاعة إلى رئة ثورتهم واحتجاجاتهم، ولحظة الحلم بمخاطة مناصريهم في أية بقعة امتزجت فيها دماء الشهداء بتربة الوطن، اقتضت الظروف التي تحيط بثورة تشرين وجود هذه الوسيلة الإعلامية التي تخاطب مئات الآلاف من المحتشدين لنشر الوعي بين صفوفهم وتوجيههم نحو الحفاظ على مبادئ الثورة وهي السلمية في مواجهة الطغيان.
إذاعة "نريد وطن" أول منصة إعلامية تطوعية تموّلها تبرعات الناس، ويعمل فيها مختصون من مقدمي برامج ومذيعين وتقنيين وأغلبهم من الإعلاميين المتطوعين وطلبة معهد الفنون المرئية والسمعية في جامعة بغداد، بدأت اللبنة الأولى بدعوة أحد المتظاهرين على فيسبوك، والتف حولها بعض المتظاهرين الذين استأجروا بعص الأدوات والمعدات الاحترافية "ميكسرات وسبيكرات"، وتم وضعها قرب بوابة "المطعم التركي"، معقل المتظاهرين الأبرز أو ما بات يسمى عراقياً بـ"جبل أحد"، لتصبح أول منصة إعلامية عراقية تؤدي دور الإذاعة دون أثير أو بث فضائي. لكنها تعمل كأي إذاعة أخرى، في إعداد البرامج والأخبار، ولا تختلف عن الإذاعات الأخرى سوى بنطاق وصول بثها المحدود، لكن هدفها الأساسي هو استقطاب جمهور ساحة التحرير، ونشر التوعية السياسية بينهم، إضافة إلى دورها الخدمي والإنساني في آن معاً، إذ تُبلّغ عن المفقودات من موبايلات وبطاقات شخصية ومحافظ أموال وغيرها، وتوجه المناشدات الإنسانية في استقطاب التبرعات للمحتاجين من الفقراء وتعويض أشخاص خسروا عرباتهم "التكتك" أثناء المواجهات مع القوات الأمنية والمليشيات، كما تتخللها برامج هادفة، منها "من هو أكثر شخص ساعد في إنقاذ الآخرين من قنابل الغاز المسيّل للدموع؟"، وبرنامج "صباحٌ في التحرير" الذي يتناول قضايا الناس والزوار، وفي المساء تُطلق الإذاعة برامجها الترفيهية مثل قراءة الشعر، ولا تنسى تذكّر الشهداء الذين قضوا في المواجهات.
من يموّل هذه الإذاعة؟ سؤال بسيط، والإجابة عليه أبسط: إنها تبرعات الناس والمناصرين لحراكهم في ساحة التحرير، التي تُستخدم في دفع إيجار المعدات ومساعدة العاملين المحتاجين إلى أجرة للتنقل والذهاب إلى منازلهم.
إذاعة "نريد وطن" صوت من لا صوت له، وصرخة الثائرين في وادي الظالمين، لا يريدون سوى وطن يحتضن أحلامهم في العيش الكريم لا أكثر ولا أقل، وكمن بين أحلام الشبان المشرفين على الإذاعة أن يتوفر لهم تردد للبث في عموم العاصمة والعراق وليس عبر مكبرات الصوت في ساحة التحرير، من أجل أن يصل صوت إصلاح ما أفسدته الأحزاب السياسية إلى أوسع فئات المجتمع العراقي، تلك التي خنقت صوتهم الذي يعبّر عن وطن لا يكون فيه مكان للطائفية والمحاصصة والفساد والتبعية لإيران، ألا يحقُ للثوّار والمحتجين السلميين أن يحلموا بهذا الوطن؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة