من "مصنع العالم" إلى قيادة الابتكار.. ثورة خفية للتكنولوجيا في الصين
استفاد العالم على مدار العقدين الماضيين من شراكة بناءة بين الولايات المتحدة والصين يمكن تلخيصها في أن الأولى اعتادت ابتكار التقنيات الجديدة بينما تتولى الثانية توفيرها للمستهلكين بأسعار زهيدة.
تلك الشراكة بين "العلم" و"العمل"، المتمثلة في الإنفاق الأمريكي السخي على البحث العلمي، والتوافر الهائل لليد العاملة الرخيصة في الصين، ترجمت إلى الكثير من المنتجات الاستهلاكية جيدة الصنع ومنخفضة الثمن.
مع مرور الوقت، وفي مفترق طرق، شعرت الولايات المتحدة بأن الدور الصيني تخطى حدود "مصنع العالم" إلى قيادة السوق في مجالات عديدة، عبر "ثورة تكنولوجية خفية"، كما وصفتها مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية في مقال حديث.
ومع تزايد المخاوف من فقدان هيمنتها، فرضت واشنطن قيودا عديدة على وصول التكنولوجيا المتطورة إلى الصين، لتحبس بذلك "العلم" عن شريكتها القديمة.
لكن الصين، واصلت على نحو مذهل نهضتها التكنولوجية معتمدة على "العامل" الذي وفر بخبرته المتراكمة أساسا لقاعدة تصنيعية هائلة قادرة على الإنجاز العملي رغم تراجع المعرفة العلمية، وفقا لمقال "فورين أفيرز".
هواتف آيفون.. الانتقال من التجميع للتصنيع
اعتمدت شركة أبل على تصنيع هواتف آيفون في الصين بداية من عام 2007، لما كانت تتمتع به البلاد من عمالة رخيصة ، وهذا ما اشتهرت به أكثر من كونها معروفة بالتطور التكنولوجي.
في ذلك الوقت، الشركات الصينية لم تكن تتمتع بالقدرة اللازمة لإنتاج أي من مكونات هاتف آيفون محليا، تلك المكونات التي كان يتم استيرادها من ألمانيا واليابان والولايات المتحدة، واقتصر دور العمالة الصينية على تجميع الهاتف، وفق مقال "فورين أفيرز".
ومع إصدار أبل لهاتف آيفون إكس عام 2018، تغير الوضع بشكل كبير، بحلول هذه الفترة تجاوز الدور الصيني تجميع أجهزة هاتف آيفون ، وكانت تتولى الشركات الصينية إنتاج العديد من المكونات المتطورة لهواتف آيفون ، بما في ذلك الأجزاء الصوتية ووحدات الشحن وحزم البطاريات، وبطريقة متنقلة تتفوق بها الشركات الصينية على منافسيها الآسيويين والأوروبيين.
واليوم، يمثل ما تصنعه شركات التكنولوجيا الصينية من مكونات لهواتف آيفون أكثر من 25% من تكاليف القيمة المضافة للجهاز.
المرحلة التالية.. إنتاج التقنيات الخاصة
ويقاس على هاتف آيفون هذا النشاط الموسع الذي اتخذته الصين في كافة مجالات صناعة التقنيات الأخرى، بالاعتماد على إنتاج تقنياتها المتطورة الخاصة وعدم الاكتفاء بتجميع الأجهزة.
وتتحدى هذه النجاحات الفكر القائل بأن القيادة العلمية تترجم حتما إلى قيادة صناعية، فعلى الرغم من مساهماتها المتواضعة نسبيا في مجالات البحث والابتكار العلمي، إلا أن الصين استفادت من تجاربها وخبراتها العملية في مجال التقنيات، بشكل منحها القدرة على توسيع نطاق الصناعات الجديدة بالكامل- للتغلب على الولايات المتحدة في مجموعة واسعة من التقنيات الاستراتيجية، وفق مقال "فورين أفيرز".
القيود الأمريكية تفقد تأثيرها
وخلال تنافسها المتزايد مع بكين، سعت الحكومة الأمريكية إلى تقييد وصول الصين إلى التقنيات الغربية المهمة وتعزيز تقاليدها الخاصة في الابتكار العلمي.
وترتب على ذلك، أنه في عام 2022، اتخذت إدارة الرئيس الأمريكي بايدن قرارا بفرض قيود جديدة واسعة النطاق على بيع تكنولوجيا الرقائق الغربية المتقدمة للشركات الصينية، مع تعزيز التكنولوجيا الأمريكية من خلال تشريع "الرقائق والعلوم" البالغة قيمته 280 مليار دولار.
هذا التشريع الجديد، بالإضافة إلى قانون الحد من التضخم، كان مفيدا بشكل كبير بالنسبة للولايات المتحدة في عملية استعادة بعض ريادتها في إنتاج أشباه الموصلات والطاقة المتجددة.
القوة التصنيعية.. عصا سحرية للصعود
غير أن البراعة التكنولوجية المتنامية لدى الشركات الصينية تشير إلى أن هذا النهج افتقد الانتباه إلى قضية هامة، وهي أن صعود الصين في مجال التقنيات ليس مجرد نتيجة للاقتباس من الشركات الغربية والسرقة منها، كما أن الصين لم تعتمد على الاكتشافات العلمية.
هذا الصعود، تم دعمه إلى حد كبير، من خلال التحسينات في القدرات الصناعية للصين، والمكاسب التي تحققت من خبرات القوى العاملة التصنيعية الضخمة والمتطورة في البلاد.
وتتجلى نقاط القوة هذه، في صمود الصين في مواجهة ما فرضته الولايات المتحدة من قيود على الرقائق في السنوات الماضية، وفي السابق، كانت الشركات الصينية تميل إلى تجنب التقنيات الصينية المصنعة محليا، بدافع من تفضيلها لشراء الأفضل، الذي عادت ما يكون أمريكي الصنع، ولكن الآن بعد أن منع واشنطن لوصول هذه التقنيات، فإن الشركات الصينية تعمل بجد أكبر لتنمية صناعة الرقائق المحلية لتحقيق الاكتفاء الذاتي.
دروس حاسمة من نجاح الصين
وبالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها، فإن نجاح الصين في أن تصبح قوة تكنولوجية عظمى يحمل دروسا حاسمة، وعلى عكس الغرب، كان سعي الصين في سبيل تطوير قطاعها التكنولوجي لا يعتمد على العلوم المثيرة للإعجاب واللافتة للأنظار، ولكن تركيزها الأكبر كان على تحسين قدرات التصنيع.
وإذا كانت واشنطن جادة بشأن التنافس مع بكين في مجال التكنولوجيا، فستحتاج إلى التركيز على ما هو أكثر بكثير من تحقيق الريادة في مجال العلوم، فسيكون عليها أن تتعلم كيفية تسخير قوتها العاملة كما تفعل الصين، كما سيتعين عليها التعامل مع التصنيع باعتباره جزءا أصيلا من تحقيق التقدم التكنولوجي.
ويعود تشكيك العديد من المراقبين بمجال التقنيات في ريادة الصين بمجال التكنولوجيا، لسبب واحد، هو قلة الشركات متعددة الجنسيات والعلامات التجارية المعترف بها عالميا التي أنشأتها الصين حتى الآن.
نقاط ضعف الصين
على عكس دول آسيوية أخرى أبرزها اليابان وكوريا الجنوبية، فشلت الصين في إنشاء فئات جديدة من الإلكترونيات الاستهلاكية، مثل الكاميرات الرقمية وأجهزة ألعاب الفيديو، بالإضافة لعجزها عن المنافسة في مواجهة أوروبا والولايات المتحدة في مجال صناعة السيارات والطائرات.
والنقص النسبي للعلامات التجارية الصينية، عززه الفهم الغربي للصين، كونها مصنعا عالميا ضخما، بدلا من كونها مكانا للابتكار.
أيضا، لا تزال الصين تعاني من التراجع في مواجهة الغرب، في عدد من مجالات تطوير التقنيات الهامة، فقد حققت الصين إنجازات متواضعة في مجال صناعة الرقائق، بما في ذلك تصميم رقائق الهاتف المحمول وبعض شرائح الذاكرة المتقدمة.
وفي مجال تصنيع الرقائق المستخدمة للمعالجات داخل المنتجات الرقمية، تظهر فجوة التراجع للشركات الصينية بشكل جلي، عن الشركة التايوانية الرائدة عالميا في مجال أشباه الموصلات المتقدمة، هذه الفجوة من التراجع تقدر ب 5 سنوات نقص من الخبرة.
ويظهر ضعف الصين أكثر وأكثر، عندما يتعلق الأمر بتطوير الأدوات الخاصة بصنع الرقائق، فنجد أن الصين تتخلف بشكل كبير عن الولايات المتحدة واليابان وأوروبا، في توفير معدات القياس المستخدمة في طباعة الأنماط على رقائق السيليكون، ومعدات القياس المستخدمة لمراقبة الجودة، هنا تلجأ الصين للاستيراد من الدول المذكورة سلفا.
وهي خارج المنافسة تقريبا فيما يخص إنشاء الأدوات البرمجية اللازمة لتصميم الرقائق المتطورة.
والمعاناة نفسها تعيشها الصين في مجال الطيران، ومن أمثلة ذلك، شركة الطائرات التجارية الصينية "كوماك"، التي أسستها الصين لتمثلها في منافسة شركتي إيرباص وبوينغ، وهي شركة مملوكة للدولة مدعومة بتمويل حكومي يقدر بنحو 71 مليار دولار.
هذه الشركة بعد 15 عاما من تأسيسها، نجحت بصعوبة في أن تبدأ في إنتاج أول طائرة ركاب تجارية عاملة، ويعكس ذلك مدى العجز الصيني الذي يفرضه الاعتماد على التكنولوجيا الغربية، ويمنح قيود الرقائق الأمريكية الجديدة إمكانية دفع الشركات الصينية إلى الاضطراب.
أين يلمع الابتكار الصيني؟
في الوقت نفسه، وسط هذا الكم من نقاط الضعف الخطيرة، كان للصين خطوات أحرزت خلالها تقدما سريعا في عدد من التقنيات الأخرى، وفق مقال "فورين أفيرز".
الأذرع الروبوتية
فقد حققت الشركات الصينية مكاسب سريعة في منافستها لنظيراتها الأوروبية واليابانية في مجالات مثل إنتاج أدوات آلية متقدمة مثل الأذرع الروبوتية والمضخات الهيدروليكية.
جهاز آيفون
أيضا من أدلة تفوق الصين في مجالات أخرى، جهاز آيفون ، الذي يمثل تفوق الصين في تنافسها مع اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان في مجل سلسلة توريد الإلكترونيات.
تيك توك
وفي مجال الاقتصاد الرقمي، على الرغم من الجهود الأخيرة التي بذلها الرئيس شيء جين بينغ لتشديد سيطرة الحكومة على شركات الإنترنت مثل علي بابا وتينسنت وديدي ، إلا أن هذه المنصات لا تزال قادرة على المنافسة بقوة في مواجهة منافستها في وادي السيليكون، وهو ما تقوم به بنجاح حتى الآن منصة "تيك توك" في مواجهة فيسبوك.
الجيل الخامس
أيضا، تتمتع الصين بالريادة في مجال بناء البنية التحتية الحديثة، حيث تقود العالم في مجالات مثل خطوط النقل ذات الجهد العالي، والسكك الحديدية عالية السرعة، وشبكات الجيل الخامس.
الفضاء والاتصالات
ونجد أنه في عام 2019، أصبحت الصين أول دولة تهبط بمركبة فضائية على الجانب البعيد من القمر، وعقب ذلك بعام واحد، نجح علماء الصين في إنشاء نظام اتصالات كمية لا يمكن اختراقها.
الطاقة الشمسية
أيضا، كان من ضمن أحد أهم الانتصارات التقنية التي حققتها الصين في السنوات الأخيرة، ما كان لها من إنجازات في مجال معدات الطاقة المتجددة.
أصبحت ألواح الطاقة الشمسية صينية الصنع، هي الأرخص والأكثر كفاءة في الأسواق، وما شهدته أسواق ألواح الطاقة الشمسية من تخفيضات في أسعار البيع خلال السنوات العشر الماضية يعود الفضل به لابتكارات التصنيع في الصين.
احتلت الشركات الصينية أيضا في السنوات الماضية، مراكز قوية بين شركات العالم، في إنتاج البطاريات ذات السعة الكبيرة التي تشغل السيارات الكهربائية.
حقبة جديدة للعلم والتكنولوجيا
هذه الإنجازات هي رمز لجهود الصين الدؤوبة لإتقان المزيد والمزيد من المهام الصعبة، في مجالات صناعة التقنيات المختلفة، وفق مقال "فورين أفيرز".
وتدرك الصين في الوقت الحالي، أنها في حاجة لتطوير نفسها في مجال المعرفة العالمية، وأعلن الرئيس "شي"، أن العلم والتكنولوجيا سيكونان على رأس أولويات الحزب الشيوعي السيني في المستقبل، خلال مؤتمر وطني للحزب أقيم في أكتوبر 2022.
aXA6IDMuMTQ1LjM0LjIzNyA= جزيرة ام اند امز