قراءة في طبيعة وأبعاد السلوك الأمريكي المهادن لاستفزازات النظام التركي المتنامية
لم تشهد العلاقات التركية-الأمريكية عبر التاريخ مثل هذا الكم الهائل من الخلافات بين البلدين، كما لم يشهد التاريخ أن تحدى رئيس تركي السياسة الأمريكية مثل ما هو أردوغان اليوم؛ إذ إن تركيا ومنذ انضمامها المبكر إلى الحلف الأطلسي عام 1952، كانت مجرد تابع للسياسة الأمريكية، وتقوم بدور الشرطي الأطلسي-الأمريكي في مواجهة الاتحاد السوفيتي قبل انهياره.
لعل ما يعيق تحول هذه السياسة إلى واقع في العلاقة مع تركيا هو الجانب الدستوري في الولايات المتحدة، والذي يعطي لترامب صلاحيات قانونية واسعة لتمرير سياسته تجاه تركيا أردوغان، وعليه يمكن القول إن مشهد العلاقة الأمريكية-التركية هو تضارب في الاستراتيجيات والمصالح مقابل علاقة خاصة تربط ترامب وأردوغانمع كل خلاف أمريكي-تركي جديد يظهر الكثير من الضجيج الإعلامي حول إمكانية حدوث صدام بين الجانبين، وأن تلجأ واشنطن إلى إجراءات صارمة ضد أنقرة، لكن واقع الحال ما جرى حتى الآن يشبه العكس، ولعل الأمثلة هنا كثيرة، فالولايات المتحدة التي حذرت مرارا تركيا من عدم المضي في إتمام صفقة المنظومة الصاروخية الروسية إس 400 اكتفى رئيسها ترامب بالعتب وتفهم السلوك التركي، كما أن ترامب الذي وعد أردوغان بتدمير اقتصاد تركيا إذا شن عدوانا ضد كُرد سوريا تفهم هذا العدوان، بل أعطى الضوء الأخضر له، كما أن ترامب الذي ينتهج سياسة عقوبات صارمة ضد إيران ويعاقب كل من يساندها يتغاضى عن الخرق التركي المستمر لهذه العقوبات، خاصة أن تقارير وتحقيقات أمريكية كثيرة أكدت أن تركيا وبأوامر من أردوغان شخصيا تقوم بأكبر خرق لهذه العقوبات، من خلال التجارة غير المشروعة مع إيران، والتلاعب بتهريب الدولار والذهب والنفط منها وإليها، بل إن بعض العقوبات التي فرضها الكونجرس على تركيا على خلفية هذه الخلافات وغيرها ألغي بضغط من ترامب شخصيا.
في معرض تبرير البعض لهذا السلوك الأمريكي المهادن لتركيا، يرى هؤلاء أن الأمر له علاقة بالحرص الأمريكي على عدم خسارة تركيا لصالح روسيا وإيران، وبمكانة تركيا الاستراتيجية في السياسة الأمريكية، وبقدرة واشنطن على تدوير الخلافات مع أنقرة من أجل مصالح عليا، لكن مع لهجة التحدي التركية مقابل المهادنة الأمريكية بدأت تفقد هذه الرؤية مصداقيتها، لا سيما بعد تهديد وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو ببحث مصير القواعد الأمريكية في تركيا، وعلى رأسها قاعدة أنجرليك التي تحتوي على أسلحة استراتيجية أمريكية بينها أسلحة نووية، فضلا عن مضي أردوغان في الذهاب نحو بوتين بعيدا، فماذا وراء هذا السلوك الأمريكي المهادن لتركيا؟
المتابع لهذا السلوك الأمريكي، لا بد أن يتوقف عند مستويين:
الأول: مستوى العلاقة الخاصة بين أردوغان وترامب، وهي علاقة فيها الكثير من المصالح الخاصة، وهي مصالح يديرها صهرا ترامب وأردوغان، أي جاريد كوشنير وألبيرات البيرق، وإلى جانبهما مجموعة من مستشاري الرئيسين، فضلا عن أوجه تشابه كثيرة بين شخصيتي ترامب وأردوغان، لا سيما لجهة الشعبوية في إدارة السياسة والبلاد، وطريقة تعاملهما مع وسائل الإعلام.
الثاني: مستوى الاستراتيجيات؛ إذ من الواضح أن المؤسسات الأمريكية والتي تسمى بالدولة العميقة، أي الكونجرس والبنتاجون والاستخبارات وغيرها من المؤسسات الأمريكية الوازنة والعريقة، تتبع سياسة مختلفة عن سياسة ترامب مع تركيا وسلوكياتها، ولعل ما يعيق تحول هذه السياسة إلى واقع في العلاقة مع تركيا هو الجانب الدستوري في الولايات المتحدة، والذي يعطي لترامب صلاحيات قانونية واسعة لتمرير سياسته تجاه تركيا أردوغان، وعليه يمكن القول إن مشهد العلاقة الأمريكية-التركية هو تضارب في الاستراتيجيات والمصالح مقابل علاقة خاصة تربط ترامب وأردوغان.
والسؤال هنا: ماذا عن هذه العلاقة الخاصة بين الرجلين؟ ثمة تقارير تتحدث عن مصالح هائلة لترامب في تركيا لها علاقة بمؤسسات تجارية ومالية، وتقارير أخرى عن دعم من أردوغان عبر رجاله لمؤسسات ترامب المالية والتجارية داخل الولايات المتحدة نفسها، وأن من يدير هذه المصالح الخاصة هما كوشنير والبيرق، وأن هذه العلاقة موجودة ووثيقة حتى قبل وصول ترامب إلى البيت الأبيض، الذي استضاف فيه ترامب قبل فترة البيرق دون صفة رسمية! ولعل العديد يعرفون قصة برج ترامب الذي بني في إسطنبول عام 2012، حيث شكرت وقتها إيفانكا ابنة ترامب الرئيس التركي على المساعدات التي قدمها لبناء هذا البرج. واللافت هنا هو دور محمد علي يالجين داغ، الذي يشغل حاليا منصب رئيس مجلس الأعمال التركي-الأمريكي، هذا الرجل الذي بدأت الصحافة تتحدث عنه بكثرة، وتظهره كمهندس لشبكة المصالح الخاصة بين أردوغان وترامب. ماذا يعني كل الكلام السابق؟ ثمة من يرى أن القضية التي ستضع نهاية لحياة ترامب السياسية ليست أوكرانيا وإنما تركيا، عندما تفتح ملفات العلاقة بين ترامب وأردوغان، خاصة أن صبر الدولة العميقة في الولايات المتحدة نفد إزاء سياسة ترامب الخاصة تجاه تركيا أردوغان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة